سياسة وعلاقات دولية
اليازغي: الحسن الثاني وظف الكرة لدعم مشروعية النظام
منصف اليازغي: دكتور في العلوم السياسية
كانت علاقة الحسن الثاني بالرياضة مؤكدة ووثيقة، ما هي، في تقديركم، خلفياتها؟
انطلاقا من كون كرة القدم الرياضة الشعبية الأولى في المغرب والعالم، وتمارسها فئة عريضة من الشباب، كان من الصعب تفويت الفرصة دون إدماجها في الصيرورة العامة للبلاد، وضمن فكر الراحل الحسن الثاني، خاصة أن النموذج الإسباني كان حاضرا بقوة آنذاك، والذي انبنى على رعاية مباشرة من الجنرال فرانكو للفرق الإسبانية، أملا في تلهية الشعب عن هموم أكبر شهدتها إسبانيا بعد خروجها من حرب أهلية مدمرة.
لقد احتلت الرياضة مكانة أكبر، على مستوى الخطاب، في تفكير الحسن الثاني منذ سنة 1970، ظهور المغرب بوجه مشرف في أول مشاركة إفريقية وعربية بكأس العالم، قبل أن يزداد حضورها بمناسبة فوز سعيد عويطة ونوال المتوكل بميداليتين ذهبيتين في الألعاب الأولمبية لسنة 1984 بلوس أنجلس، ثم بمناسبة تحقيق المغرب التأهل إلى الدور الثاني من كأس العالم بالمكسيك سنة 1986، إذ اتضح للراحل أنه بالرياضة وليس بالسياسة يمكن تسجيل حضور المغرب في أكبر المنتديات العالمية إلى جوار أكبر الدول الصناعية، وأنه بالرياضة أمكن تقديم المغرب في صورة البلد المعافى القادر على إنجاب الأبطال، وأنه بالرياضة يمكن شغل مساحة مهمة من اهتمامات الشباب المغربي الذي ظل مشتتا في مرحلة معينة من تاريخ المغرب بين إيديولوجيات دخلت في صراع متجدد ومتوال مع القصر، وبين الإكراهات الاجتماعية لمغرب ما بعد الاستقلال.
لقد ظلت الرياضة ضمن المجال الخاص للملك، انطلاقا من حضورها في سياق الخطاب والفعل الموزع بين الظاهر والباطن، والمعقلن وغير المعقلن، إضافة إلى تقييد الحكومات المتعاقبة بالتوجيهات الملكية الصادرة خلال إعلان البرنامج الحكومي، فمبادرة الحكومة في المجال الرياضي لا يمكن أن تأتي خارج سياق الخطاب الملكي في افتتاح الدورة التشريعية أو خطاب العرش أو مضمون الخطاب أو الرسالة الموجهة إلى مناظرة حول الرياضة، وينطبق ذلك أيضا على البرلمان الذي تحول، في إطار العقلنة البرلمانية والقيود الدستورية، إلى مشرع هامشي يحتل المرتبة الثالثة في سلم الفاعلين، ناهيك عن الأحزاب التي ظلت تابعة وغير مبدعة في غياب أي تجل حقيقي لدورها التأطيري وتأثيرها في السياسات العامة.
وبالتالي، فإن الميكانيزمات التي وظفها الملك من أجل احتكار الفعل في بعض المجالات الحيوية ضمانا لشرعيته، هي نفسها التي وظفت في القطاع الرياضي، وإن كانت الحدة والوسائل والرهانات تختلف.
إلى أي حد كان الحسن الثاني قريبا من الرياضة والرياضيين؟
إن استشعار الحسن الثاني قوة الرياضة الدبلوماسية كان وراء تنازله عن «كبريائه» في إحدى اللحظات، وهو يقول في خطاب له بتاريخ 8 يوليوز 1997، إن العالم عرف المغرب بالمتوكل وعويطة أكثر مما عرفه بملكه، كما لا يمكن بأي حال من الأحوال التغاضي عن أن علاقة الحسن الثاني بالرياضة بلغت حد التدخل المباشر في أدق تفاصيل التدبير اليومي لبعض الجامعات الرياضية، ككرة القدم وألعاب القوى على الخصوص، إذ إن تعيين أو إبعاد رؤساء اللجنة الأولمبية وبعض الجامعات الحساسة ومدربي المنتخبات الوطنية كان يمر بالضرورة من القصر، فقد كان يتردد قبل انطلاق أي جمع عام، خصوصا لجامعة كرة القدم واللجنة الأولمبية، أن «السلطان عيّن فلانا»، وبالتالي، قُضي الأمر، ولا مجال لإجراء انتخابات، بقدر ما يقتصر الأمر على تزكية مرشح الملك.
ويمتد الأمر إلى كونه محدد خريطة طريق الرياضة الوطنية عبر الرسالة التي تليت قبل انطلاق مناظرتي 1965 بمراكش، إلى جانب العشرات من التوجيهات التي جاءت بشكل مرتجل في خطابات الملك وكلماته. ورغم الزخم الكبير من الأفكار التي جاءت في الخطب حول الرياضة، سواء بشكل مستقل أو من خلال ربطها ببعض القطاعات الأخرى، فإن الإشكال يظل مرتبطا بعدم امتداد الخطاب إلى حدود الفعل، ولجوء الملك إلى الاستفادة من كل حدث وتوظيفه في دعم مشروعية نظامه.
أضف إلى ما سبق توجيه الأوامر إلى بعض المؤسسات العمومية من أجل التكفل بمصاريف بعض الرياضيين والجامعات، ناهيك عن استقبال الوفود الرياضية قبل وبعد مشاركتها في التظاهرات الدولية، فنصر رياضي هو انتصار للملك الذي يستقبل، وفق طقوس تقليدية، الوفود الرياضية بعد عودتها متوجة، ما حوّل الملك إلى نقطة محورية في تدبير القطاع الرياضي تنطلق منها كل القرارات التي تهم التدبير اليومي لبعض الجامعات الرياضية، إلى درجة أن جامعة كرة القدم، على سبيل المثال، اضطرت إلى برمجة نهايتين لكأس العرش في يوم واحد، وثلاث نهايات في سنة واحدة نظرا إلى عدم تلاؤم مواعيدها الأصلية مع برنامج الحسن الثاني الذي كان حريصا على حضور المباريات النهائية إلى غاية السنوات التي سبقت وفاته.
هل صحيح أن الحسن الثاني كان يعين الناخب الوطني، ويختار التشكيلة في بعض الأحيان؟
بطبيعة الحال، فالملك الراحل أحرج العديد من وزراء الشباب والرياضة ورؤساء جامعات كرة القدم، وهو يقرر بشأن مدرب المنتخب المغربي، على اعتبار أن كرة القدم هي مجاله الخاص. وسأستعرض حالات بالتدقيق، مرتكزا على وثائق ومعطيات مستقاة مباشرة من أشخاص عاينوا هذه الأحداث، وأول حالة هي بلاغ الديوان الملكي الذي يعلن تعيين الحسن الثاني، الفرنسي جوست فونطين، على رأس المنتخب المغربي بتاريخ 8 يناير 1980، إذ كان وزير الشبيبة والرياضة آنذاك، عبد الحفيظ القادري، آخر من علم بالموضوع، بعدما استقبله الحسن الثاني بمراكش ليقدم له المدرب الجديد، في الوقت الذي كان القادري نشر في جريدة حزبه «العلم» بلاغا له بتاريخ 5 يناير 1980، يعلن من خلاله تعيين حسن الصفريوي مديرا تقنيا ومحمد جبران مدربا للمنتخب.
وتكرر مشهد التدخل في شؤون جامعة كرة القدم ووزارة الشبيبة والرياضة مجددا بمناسبة مشاركة المنتخب المغربي لكرة القدم في نهائيات كأس العالم 1994 بالولايات المتحدة، فقبل التوجه إلى الولايات المتحدة، استقبل الملك الوفد المغربي، وقدم إليه إرشاداته وتوجيهاته، قبل أن يعاود الاتصال بهم هاتفيا خلال دخولهم غمار المباريات. وبمجرد خسارة المنتخب المغربي مبارياته الثلاث، وخروجه من الدور الأول من النهائيات، استقبل الملك، يوم 17 غشت 1994، ريكاردو تيكسيرا، رئيس الكنفدرالية البرازيلية لكرة القدم، مرفوقا بسفير البرازيل بالمغرب، أنطونيو كاثياريا، بهدف الاطلاع على لائحة المدربين المرشحين لتدريب المنتخب المغربي، قبل أن يوشحه بوسام علوي من درجة قائد. وسيستقبل الملك، يوم 21 شتنبر 1994، المدرب البرازيلي كارلوس ألبرتو سيلفا، الذي أعلن الديوان الملكي أنه كُلف بتدريب المنتخب المغربي، بحضور وزير الشبيبة والرياضة مولاي إدريس العلوي المدغري، في تجاوز لاختصاصات كلا من الجامعة المعنية والوزارة الوصية.
ولم يصدر أي بلاغ بعد ذلك لتوضيح الأسباب الثاوية وراء عدم التعاقد رسميا مع هذا المدرب، إلى أن استقبل الملك اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم، سبعة أشهر بعد ذلك، إذ قُدم المدرب الجديد للمنتخب المغربي، البرازيلي نونيز سغويرا، رفقة مساعده المغربي محمد أجنوي. وتجدد هذا المعطى مع المدرب هنري ميشيل الذي استقبله الملك بعد التعاقد معه سنة 1996، قبل أن يخصص له حيزا وافرا من الكلمة التي ألقاها بتاريخ 26 يونيو 1998 بعد عودة المنتخب المغربي من كأس العالم بفرنسا، موشحا إياه بوسام ملكي.
وكان الحسن الثاني وراء تأسيس فريق الجيش الملكي، وقد بلغ الأمر حد حد توجيهه على المستوى التقني، فقد كان حريصا على بعث توجيهات تقنية إلى المدرب الفرنسي غي كليزو خلال المباريات، وكانت أبرز تلك التوجيهات تلك التي مازال يحتفظ بها بعض الذين عايشوا فترة الستينيات، فقد أرسل الحسن الثاني مذكرة صغيرة كتبها إلى كليزو بخط يده خلال مباراة الجيش الملكي وريال مدريد في إطار مباراة الترتيب في كأس محمد الخامس يوم 26 غشت 1962 يقول فيها بالحرف:
Parfait, c’est bon, on n’est pas ridicules, Mokhtatif est 1 (un) gros balourd, tachez de mettre Mustapha l’avant-centre….appliquer le jeu de soutien»
هل تعتقد أن تأهل المنتخب الوطني إلى مونديال الكرة، في عهد الحسن الثاني، كان يقدم خدمة للملك؟
كان الملك الحسن الثاني يرى في المونديال فرصة لمقارعة الدول الكبرى، فالحضور في كأس العالم يضمن متابعة دولية للمغرب، ومنظور الحسن الثاني كان يتمثل في أن المونديال هو واجهة للظهور بمظهر البلد المعافى اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، خصوصا أن بعض الباحثين يربطون بين الناتج الخام الوطني والدخل الفردي ومستويات التعليم والصحة والمعيشة من جهة، وبين تسجيل الحضور في الساحة الدولية على المستوى الرياضي، من جهة أخرى، كما أن انتصارات المنتخب المغربي لكرة القدم هي نياشين على كتف رئيس الدولة.
وإذا كانت السلطة قد برعت في تمجيد بلوغ المغرب المونديال عبر الاستقبالات قبل وبعد المشاركة في مختلف وسائل الإعلام العمومية، فإن الأمر يبلغ حد تصوير الخسارة على أنها فوز، فخسارة المغرب لتنظيم كأس العالم 1994، مثلا، صُورت على أنها مكسب، بحكم أن المغرب خسر أمام الولايات المتحدة، العملاق الاقتصادي والسياسي، بفارق صوتين فقط، في حين أن الخسارة لا تعني سوى الخسارة حتى لو كانت بنصف صوت. الأمر نفسه في مونديال 1998 بفرنسا، عندما خرج المغرب من الدور الأول، إذ صُور الأمر على أساس أنه مؤامرة ضد المغرب بعد تلاعب النرويج والبرازيل بنتائج المباراة الأخيرة، في حين أن كاميرا أحد المصورين الهواة أكدت صحة هدف منتخب النرويج أمام البرازيل. ورغم الخسارة، طاف المنتخب في حافلة وسط شوارع العاصمة كما لو أن الأمر يتعلق بنصر، وهو أمر لا تجده في دول أخرى.