ثقافة وادب وفنونسلايد 1

دراسة تضع حصيلة القطاع السينمائي في المغرب تحت مجهر النقد

رَغم ما يبدو عليه القطاع السينمائي من تطوّر بالمغرب، إلّا أنّه يبقى، من حيث وظيفيّته، وَفق إدريس القري، الباحث في الجماليات البصرية، ضعيفا ومنحسِرا وعقيما، وتظلّ معه السينما “رافعة تحديث إستراتيجيّة مهملة” بالبلاد.

وجاء هذا في دراسة للباحث إدريس القري، يلخّص فيها وضع السينما المغربيّة، ويرافِع فيها من أجل تصيِيرها رافعة للتّحديث والعصرنة والتنشئة والتربية والتواصل الجماهيري، خاصّة بعدما ظهرت ضرورة هذا الأمر، “ليس فقط مع مظاهر تعامل الدولة من خلال حوارات رجالها في البرلمان وفضاءات التواصل العمومي، بل مع مكونات المجتمع؛ حيث ظهر الدور المحوري لغياب الوعي المدني والالتزام السلوكي، خارج الخوف والانضباط المألوف، في انتشار الجائحة، وفي تعميق مظاهر سلوك غير حداثي ولا مدني في أوصال المجتمع”.

ويغتنم الباحث “سياق جائحة كورونا”، وما يشكّله مِن “مناسبة لإعادة نظر عميقة وجذرية في النموذج التنموي، وفي الإستراتيجيات التنموية المنبثقة عنه”، حاسما في نقطة تضمّنتها مواضعات دراسته، أو مسلّماتها النّظريّة، على أنّ السينما لَم تتطوَّر في أيّ بلد من بلدان العالَم إلا بتوفُّرِ ثلاثة عوامل تربطها علاقة ديالكتيكيّة، هي: “نُمُوّ بناء القاعات بشكل مُطَّرِد مع نمو الساكنة وتحيين السياسات العمومية التنموية، ونُمو الطَّبقة الوُسْطى مع نموِّ الاقتصاد ومن أجله، ونُمُوّ الإنتاج السينمائي الوطني كميًّا ونوعيا، لمواكبة النمو السكاني، والحاجات التواصلية الجماهيرية والتنشئوية والتربوية”.

ويقول القري إنّ الوضع الحالي “يتميّز بمجموعة من الصفات غَير المَسْبُوقة، التي تدُل بقوة وبعُمق على الوَضع غير السّليم لبنيات جسم السينما المغربية حاليا، بل ومنذ تأسيس المركز السينمائي المغربي سنة 1944”.

وتزيد الدراسة شارحة أنّه بعد أكثر من 65 سنة من الاستقلال، أي بعد 65 سنة “من انطلاق بناء صرح مؤسسات عمومية ونموذج وإستراتيجيات ثقافية وفنية وإعلامية، هدفها تحديث وملاءمة العقليات والذهنيات وأنماط السُّلوك المُواطن”، كان من المفروض “أن يكون ميدان السينما المغربية مطبوعا بالرَّصانة وبالإبداع وبالجمال، من خلال إنتاج وفير الكم، نوعي القيمة الجمالية، وقوي الإبداع من قلب الهوية والتراث والواقع المغربي الأصيل، بل ومُلائمِ للمُساهمة في مواكبةِ أكبرِ وأوسعِ إستراتيجية تحديث سِياسِي تنموي متعدد الأبعاد تشهدها المملكة، بشكل غير مسبُوق في ظل التدبير الملكي في العصر الراهن”.

ويستدعي القري إحصاءات القطاع السينمائي المغربي، ليخلص إلى أنّ “وظيفيّة السينما المغربيّة” تعرف “انحسارا، وعُقما، وضعفا (…) على الرغم مما يبدو لنا جميعا تطورا مهما”.

وتسترسل الدراسة مفسّرة: “مجرد قسمة عدد الأفلام السينمائية الطويلة التي تم إنجازها منذ 1955 على عدد سنوات الاستقلال سيعطينا رقما لا يسمح بالحديث عن تطور يحقق قطيعة مع تعاطٍ سياسيٍّ مازال ينظر إلى هذا القطاع خارج إستراتيجية دمجه في قلب نموذج تنموي وسياسات تنموية عمومية، يمنحان الاعتراف والمشروعية لصناعة الصورة السينمائية الوطنية كرافعة جوهرية للتحديث وللتنمية”.

كما تسجّل الدراسة أنّه في مقابل 240 قاعة سينمائية، تقريبا، في السبعينيات، توجد اليوم بالمغرب 40 شاشة، وأقل من 30 قاعة سينمائية تقريبا، نسبة مهمة منها على حافة الإفلاس، في وقت تحضر في الصين 51 ألف شاشة، وتوجد بفرنسا 5800 شاشة، وتحضر بالولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 40 ألف شاشة.

وتستمرّ الدراسة موضّحة: “مقابل 45 مليون تذكرة أو أكثر بيعت سنويا خلال السبعينيات لشعب تعداده أقل من 10 ملايين نسمة، بيعت سنة 2019 مليونا تذكرة، لشعب تعداده أكثر من 37 مليون نسمة، في وقت نجد أنّ فرنسا باعت في السنة ذاتها 213 مليون تذكرة”.

وتزيد الدراسة قائلة إنّه “طيلة 65 عاما من عمل المركز السينمائي المغربي والسلطات الوزارية الوصية عليه، أُخرِج 500 فيلم تقريبا، بين الروائي الطويل والوثائقي، اشتغل عليها مائتان واثنا عشر مخرجا، 193 منهم أحياء، و164 من مجموعهم ذكور، وتسع وعشرون مخرجات؛ خلال فترة تقلّد فيها سبع مدراء مهام تدبير وتسيير وتنمية القطاع السينمائي، منذ تأسيسه”.

ويَقسِم القري عدد الإنتاجات على عدد سنوات الاستقلال ليقول إنّ “حصيلة إنتاج دولة، ومجتمع، وأدمغة الأمة المغربية، لكل سنة من الأفلام السينمائية هي: 7.69 فيلما سنويا؛ علما أنّ هذا القطاع جوهري في تنمية وتوجيه وتنشئة وتحديث وعصرنة وعقلنة الذهنيات والسلوكيات والقيّم والرأي العام، التي هي عناصر رئيسية في مواكبة، بل في إنجاح، أي تنمية وأي تحديث شمولي حقيقي للدولة والمجتمع”.

وفي تشريح لأعطاب القطاع السينمائي بالمغرب، يكتب إدريس القري أنّ تدبير هذا القطاع يفتقر إلى منظور شمولي إستراتيجيّ مندمج، كما أنّ الجسم السّينمائيّ منقَسِمٌ إلى “شيع وعشائر مُقنَّعة، تشُّل فعاليَّةً مُفترضَةً لقطاع حيوي له دوره الناجع في المجتمع والسياسات العمومية بشكل غير مباشر ولكنه مطلوب”.

ويزيد القري معدّدا أعطاب قطاع السينما، فمن “اللا معقولية والعبث في منح البطاقة المهنية”، الذي “يُعتَقدُ أنه اعتراف”، إلى “تسيُّد منطق التهميش والإقصاء، وانتشار منطق الوصولية والانتهازية”، مرورا بـ”حوار الطرشان بين كل مكونات ومسيري القطاع السينمائي والأوصياء عليه، وضعف التنافسية على المستوى القاري والعالمي، وطغيان تصورات وأفكار مغلوطة حول نمو القطاع وإشعاعه، وسيادة المنطق الكمي في التقويم والتَّعْيِير والتدبير والتسيير، وإبعاد المثقفين والمهنيين والنقاد والخبراء عن اللجان الأساسية لدعم الإنتاج والتظاهرات السينمائية”.

كما يسجّل الباحث أنّه “أحيانا لا تتوفّر خبرات حقيقية في المعيّنين للجُلوس على كراسي اللجنة”، وينتقد “الاكتفاء بالصحافيين، ووزراء سابقين، أو متخصصين في علوم إنسانية، أو مبدعين من حقول بعيدة عن السينما، كالشعر والقصة والرواية والطب والأدب الصحراوي”، التي هي “تخصصات وخبرات لا تُمكِّن، بالضَّرورة، نهائيا، من القدرة على تمثل موقع السينما من المجتمع المغربي وتحديثه، ولا من طبيعة الكتابة السينمائية المركبة وتعقيد المرور من المكتوب إلى البصري، ولا من الوعي بتاريخ السينما ودورها العميق في التربية والتنشئة، والسمو بالعقل المدني، والذهنيات الشعبية في هويتها وارتباطها بها، في تفتح على الكوني والمشترك”.

وتذكر الدراسة أنّ القطاع السينمائي احتلّ، دائما، موقعا ثانويا في إستراتيجيات السياسات العمومية التنموية، وتضيف: “لم يكن بناء كيان سينما وطنية تواكب الخطط والإستراتيجيات التنموية بالمملكة المغربية في قلب السياسات العمومية للمملكة منذ فجر الاستقلال”؛ وهو ما نتج عنه “اقتصار عمل المركز السينمائي المغربي لسنوات على إنتاج استطلاعات ونشرات إخبارية رسمية، تُعرَضُ قبل الأفلام في القاعات التجارية التي تركها الاستعمار الفرنسي والإسباني بجل المدن المغربية، بما فيها المدن الصغرى”.

وهكذا، تردف الدّراسة: “لم يتحرك القطاع السينمائي المغربي مع الجيل الأول من المخرجين والتقنيين المغاربة، خريجي معاهد باريس بفرنسا ولودز ببولونيا والقاهرة بمصر وموسكو بالاتحاد السوفييتي آنذاك، إلا نهاية الستينيات”، وهو ما تمّ “ببطء شديد وبتعثّرات كبيرة، من خلال ما يشبه تعاونيات بين المخرجين-المنتجين، في غياب أي اهتمام أو دعم من الدولة”، إذ كانت، آنذاك، “شديدة التركيز على تثبيت بنيات أساسية، سياسية، ودبلوماسية، واقتصادية، وتربوية، وأمنية، وعسكرية، قاعديّة وجوهريّة وأساسية، تركها الاستعمار مفتقرة لها، أو تركها تحت هيمنة أطره، ومن هم تحت ولايته اللغوية والثقافية والسياسية”.

ولا يرى الباحث إدريس القري في دراسته “شِفاء من علل فساد وتسيب وفوضى القطاع السينمائي غير إستراتيجية مركزية، تحيط بها قرارات أخرى جذرية على مستوى تدبير العمل، وتدبير منح الدعم الذي يشكل الشريان الحاسم والأبرز، إن لم يكن الوحيد إلى حد الآن لنمو سينمانا الوطنية والمواطنة”.

ويسجّل الباحث الحاجة إلى “بناء شبكة وطنية من القاعات، تغطي كل التراب الوطني، وتمكن السينما المغربية من آلية إعادة إنتاج ذاتية، تصحح كل خلل، وتنبت محاور النقاش العمومي، والتنشئة الوظيفية، والتهذيب المدني، وترقية الذوق العام، ومواكبة التحديث السياسي، والإسهام في النقاش العمومي للقضايا الوطنية الكبرى، بتأسيس نسق نجومية سليم، ذي أسس أخلاقية وقيمية وجمالية ومدنية، وإذاعة صيغ إعلامية للمرافقَة والدعاية والنقد والإنعاش”.

هذه الصيغ، وفق الدراسة، ينبغي أن “تطفئ ظمأ الشباب خاصة، والمواطنين عامة، إلى توجيه غير تربوي نظامي، ولا أخلاقي حزبي أو نقابي أو مؤسساتي رسمي، لطرح توضيحات وصيغ لأسئلة النمو النفسي والفكري والمدنيّ والأخلاقيّ لشخصياتهم، ولتعامُلِها مع واقع معقد، بأكثر الطرق سلمية وانفتاحا وهدوءا”.

هذه الطريقة الأكثر سلميّة وانفتاحا وهدوءا هي السينما، حَسَبَ إدريس القري، وهي التي ينبغي لها النّهوض بهذه الأدوار “من خلال أفلام مبدعينا، على اختلاف رؤاهم، وتصوراتهم، وتجاربهم، وخبراتهم؛ التي تعكس التعدد، والغنى، والتنوع الثقافي، واللغوي للمملكة المغربية، الضاربة في تاريخ مُركَّب ومُتعدد، كما تؤكد على ذلك بنود الدستور، وخطابات جلالة الملك التوجيهية للإستراتيجيات التنموية الشمولية والمندمجة للمملكة”، وفق الدراسة نفسها.

المصدر: هسبريس

إغلاق