سياسة وعلاقات دولية
حـــزن الريفيين بين الحسيمة وعكاشة
تعمقت جراح وأحزان الريف بعد النطق بالأحكام القاسية قبل أسبوعين في حق 53 من نشطاء الحَراك، بقيادة ناصر الزفزافي والمعتقلين بسجن عكاشة بالدار البيضاء. أحكام لم تصدم فقط، الرأي العام الوطني، بل حتى الدولي منه المهتم بالشأن المغربي، مما زاد صورة المملكة قتامة في الصحافة الدولية بسبب التراجعات التي تعرفها حقوقيا منذ 2016. صحيفة «إلباييس» تنقل في هذا الربورتاج من الحسيمة جزءا من أحزان وآهات الريفيين، الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة القمع – الأحكام القاسية وتراجع النشاط الاقتصادي-السياحي، لهذا تترجمه جريدة “أخبار اليوم” تعميما للفائدة لا غير. بتصرف عن «إلباييس».
كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف مساء يوم الثلاثاء (10 يوليوز 2018). في سطح بيت ناصر الزفزافي، المعطل البالغ من العمر 40 عاما، والقائد الميداني لحراك الريف نونبر 2016، ترفرف ثلاثة أعلام سوداء باهتة من شدة تعرضها لأشعة الشمس لأسابيع. إنه مساء جميل في مكان يركز بشكل كبير على عائدات السياحة وتحويلات شباب المنطقة الذين هاجروا إلى أوروبا. لكن الساحة المركزية بالمدينة خالية.
رحلة اللاعودة
قبل أسبوعين أصدرت غرفة الجنايات بمحكمة الاستئناف بمدينة الدار البيضاء عقوبات حبسية في حق 53 معتقلا من بين مئات الشباب، الذين خرجوا إلى شوارع الريف. إذ أصدرت المحكمة 20 سنة سجنا في حق ناصر زفزافي، وهي العقوبة نفسها الصادرة في حق ثلاثة من رفاقه في السجن بتهمة “تهديد الأمن الداخلي للدولة”. بينما أصدرت في حق ثلاثة آخرين 15 سنة سجنا نافذا لكل واحد منهم، و10 سنوات في حق سبعة آخرين لكل واحد منهم. و5 سنوات لتسعة معتقلين آخرين، فيما بقية المعتقلين صدرت في حقهم عقوبات تتراوح ما بين سنة إلى ثلاث سنوات سجنا نافذا. وعلى غرار هؤلاء المعتقلين في الدار البيضاء، هناك عشرات المعتقلين في سجون أخرى بالمملكة. فيما آخرون اختاروا الهجرة السرية في رحلة اللاعودة.
خالية على عروشها
أحمد الزفزافي، والد ناصر، يبلغ من العمر 75 عاما، يتحدث اللغة الإسبانية، وناصر ثاني أبنائه الأربعة. “المدينة خالية على عروشها، هناك الكثير من الحزن”، يعلق أحمد. “من يعيش في ثكنة مثل هذه التي أعيش فيها ولديه ثلاثة أعلام في السطح، كل هذا يعبر عن الكثير من الأشياء. أعيش تحت وطأة تعذيب أخلاقي. في سنة 1956 كنا نعتقد أننا حصلنا على الاستقلال. لكن هذا الاستقلال هو فقط كان في مصلحة ناهبي المال العام. هناك بلدان متورطان في هذا التعذيب الأخلاقي: إسبانيا وفرنسا. كان لدينا الأمل في الحكومة الإسبانية الاشتراكية الجديدة. لكنها أكثر نفاقا من حكومة الحزب الشعبي. الوحيد الذي يقوم بشيء من أجلنا هو حزب بوديموس. إسبانيا ينتابها الخوف من وصول الكثير من المهاجرين إليها انطلاقا من المغرب”، يتأسف والد الزفزافي.
مدينة حزينة
محمد بودرا، رئيس المجلس البلدي لمدينة الحسيمة عن حزب الأصالة والمعاصرة، الذي تأسس سنة 2008 من طرف المستشار الملكي الحالي فؤاد علي الهمة، يعترف أن النشاط الاقتصادي للمدينة تهاوى بنسبة 70 في المائة. لكنه يعتقد أن المسؤولية يتحملها من بدؤوا الاحتجاجات قبل سنة ونصف. “جزء كبير من عائدات المدينة مصدرها السياحة، فضلا عن أبناء الريف المهاجرين. ولا أحد يرغب في السفر في عطلة إلى منطقة بها توتر”، يشرح بلغة إسبانية جيدة.
بدوره يعترف بودرا، أيضا، بوجود مهاجرين من أبناء الريف لا يرغبون في زيارة ذويهم خوفا من اعتقالهم. “أكيد أنهم خائفون، بعضهم ارتكب جرائم، إذ طالبوا عبر “الفايسبوك” بالعودة إلى الجمهورية. كارليس بويغديمون، رئيس كتالونيا سابقا والموجود حاليا في ألمانيا، يرفض، كذلك، العودة إلى إسبانيا. لكن قبل الخوف كان يجب عليهم أن يفكروا مليا فيما كانوا أقدموا عليه”، يوضح بودرا.
يعتقد بودرا أن الحَراك كانت مطالبه في البداية شرعية، لكن “فيما بعد ذهب بعيدا. إذ بدأ السكان في الرشق بالحجارة، وسب وشتم المنتخبين… لم نكن في حاجة إلى كل هذا، ثم إن الاستثمار المستثمرُ في الحسيمة هو أكثر بكثير من المناطق المغربية الأخرى. الكثير من المناطق تحسدنا لأن صاحب الجلالة الملك محمد السادس عاملنا كما لم يعاملنا أحد من قبله. أكثر من ذلك، يقضي عطلة الصيف هنا، لقد أنجز هنا الكثير من المشاريع المرتبطة بالبنية التحتية. لكن المشكلة هي أن الحكومة تأخرت في تنفيذها”.
بدوره، يؤكد بودرا أن المدينة تعيش على إيقاع الحزن. “الحزن يستبد بجميع المواطنين من مختلف الإيديولوجيات، بين من مع الاحتجاجات ومن ضدها”، يوضح.
عذاب السفر
الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساءً. مقهى “غلاكسي” هو المكان الذي كان يجتمع فيه الزفزافي ورفاقه من أجل التنسيق بخصوص الاحتجاجات. حاكي محمد، ابن صاحب المقهى، حوكم بـ15 سنة سجنا نافذا. والده يحكي كيف أن ابنه كان ينوي الزواج هذا الصيف. ” لكنه اليوم، لا ينوي حتى استئناف الحكم الابتدائي. في الحقيقة، شجعته على استئناف الحكم، وأتمنى أن يصحح قاضي الاستئناف خطأ سلفه”، يضيف والد المعتقل حاكي محمد. فيما يؤكد أحمد الزفزافي أن ابنه سيستأنف الحكم في النهاية.
وفي الساعة التاسعة مساء تجتمع أسر المعتقلين قرب محطة الحافلات بالحسيمة، من أجل السفر طول الليل إلى مدينة الدار البيضاء. كما هي العادة، يجب عليها زيارة أبنائها كل صباح يوم أربعاء في سجن عكاشة. محمد يوسف، هو والد معتقل اسمه حمداوي، والذي حوكم بثلاث سنوات سجنا نافذا، يؤكد لنا قائلا: “عندما كان الإسبان في الحسيمة كانت هناك 50 مقاولة وكنسية واحدة، لكن اليوم، هناك 120 مسجدا، و0 مقاولة”.
من الصعب على أي مراسل يزور الحسيمة الحديث مع شخص لا ينتمي إلى عائلات المعتقلين. “نحن جميعا تحت المراقبة. إذ يوجد مخبرون في كل مكان، يمكن أن يلتقطوا لي صورة إذا ما رأوني أتحدث إلى صحافي”، يعتذر أحد الجيران. مواطن آخر بالحسيمة يحكي ما حدث لقاصر يعرفه جيدا ومعروف بنشاطه في مواقع التواصل الاجتماعي. “اتصلت به الشرطة وعرضت عليه أن يعمل لصالحها كمخبر. خاف الطفل ولم يعد يشارك في الاجتماعات وحتى الكتابة في مواقع التواصل الاجتماعي”، يكشف المواطن.
الصعوبات
وردة الجواري، ناشطة، شاركت منذ البداية في الحراك، لازالت تدعم عائلات المعتقلين، وتروي الصعوبات المادية التي تواجهها بعض هاته العائلات. “هناك أم لديها ثلاثة أبناء معتقلين في سجون مختلفة. هناك زوجة محمد جلول التي تعيل لوحدها ثلاثة أبناء. جلول قضى 5 سنوات في السجن على خلفية مظاهرات الربيع العربي، واليوم، حوكم بـ10 سنوات”.
كل من تصادفنا معهم يؤكدون لنا أن المدينة في مثل هذه الأيام الصيفية تعج بالسياح، لا سيما المهاجرين الذين يعودون إلى المنطقة من هولندا وفرنسا وبلجيكا وألمانيا. لكن اليوم، “الكثير من الشباب يتخوفون من اعتقالهم في حالة العودة إلى المغرب”، يوضح أحد الجيران، ويضيف “منذ اعتقال الشباب، تطرف جزء من المهاجرين في أوروبا، وأصبحوا يطالبون مباشرة وبوجه مكشوف بالجمهورية الريفية”.
ريفي آخر أوضح قائلا: “السلطات المحلية لا تنظم أي أنشطة لأنها تتخوف من أن يقاطعها المواطنون. كما أن الجمعيات لا تنظم أي أنشطة خوفا من أن توجه إليها أصابع الاتهام. في الحقيقة هناك عدد قليل من رجال الأمن مقارنة مع السنة الماضية، لكن الجميع يعرف أنه مراقب. أغلقت بعض المشاريع. الآن، هناك الحزن والبؤس هما ما يخيمان على المنطقة”.
اليوم، بالكاد تنظم احتجاجات في الحسيمة. إذ يشتكي أقارب المعتقلين من تعرضهم للمنع من قبل السلطات كل ما حاولوا التنسيق من أجل تأسيس جمعية . بعد سنة ونصف من اندلاع الاحتجاجات، فرض الأمن نفسه في الشارع. لكن التكلفة مرتفعة: مئات المعتقلين، وآخرون في حاله فرار، مصرع شاب متأثرا بجروحه أثناء مشاركته في الاحتجاجات، إلى جانب تنامي فقدان الثقة تجاه الدولة.
الحكرة
الاستياء والعجز والإحساس بالظلم… كل هذه المشاعر يمكن اختصارها بالدراجة المغربية بـ”الحكرة”، من أجل وصف الإذلال المهين لكرامة الضعيف من قبل القوي. هذا هو الشعور الذي استبد بالمواطن المغربي بعد النطق يوم الثلاثاء قبل أسبوعين بالأحكام في حق نشطاء حراك الريف الـ53 القابعين في سجن عكاشة بالدار البيضاء. قائد حراك الريف منذ خريف 2016، ناصر الزفزافي، سيقضي 20 سنة في السجن بتهمة “تهديد الأمن الداخلي للدولة”.
أحمد الزفزافي، والد ناصر، استعان بالسخرية للتعبير عن سخطه من الأحكام قائلا: “أنا جذلان، لأنني أعيش في بلد الفرح”. قبل أن يضيف: “معجب أنا بدعم الشعب المغربي لنا، وبما أن الشعب يدعمنا. الباقي لا يهمني”. وانتهى إلى أنه “عندما يطالب شخص ما بمدرسة وجامعة.. يساق إلى السجن 20 سنة… عندما تطالب بمنصب شغل.. يزج بك في السجن 20 عاما.. أي بلد هذا؟ حتى أنتم في زمن فرانكو لم يكن عندكم هذا. أنا… لا أعرف.. من الأفضل أن أصمت”.