ثقافة وادب وفنون

“العندليب والسندريلا..الحقيقة الغائبة”.. قضايا الحب مصدرا للتاريخ الثقافى

سواء على مستوى المشاهير والنجوم أو على مستوى الجماهير ورجل الشارع، تشكل قضايا الحب مصدرًا وزادا للتاريخ الثقافى وتتحول أحيانا لجدل بين المثقفين الكبار بقدر ما تعكس فى أغلب الأحيان أوجه الحياة المتعددة ومتغيرات المجتمعات كما يتجلى فى كتاب جديد صدر بعنوان :”العندليب والسندريلا..الحقيقة الغائبة”.
وفى هذا الكتاب يتناول المؤلف أشرف غريب جوانب اجتماعية وفنية وسياسية من التاريخ المصرى فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين وهو يطرح عدة اسئلة حول ما يصفه “بلغز العلاقة” بين النجمين الكبيرين عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى مثل :”هل قتل الجمهور قصة الحب الأسطورية بين النجمين المتوهجين فى سماء الفن العربي؟”.
ويقول الكاتب الصحفى والناقد السينمائى أشرف غريب فى هذا الكتاب ان “حالة تعتيم” فرضها عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى على علاقتهما التى بدأت فى نهاية عام 1959 فيما يبدى البعض شعورا بالدهشة او الاستغراب حيال استمرار حالة التعتيم رغم مرور اكثر من 40 عاما على رحيل “العندليب” ونحو 16 عاما على رحيل “السندريلا”.
والجمهور طرف مهم فى معادلات المشاهير وحتى فى قصص الحب وشؤون وشجون القلب كما يبين هذا الكتاب الذى جاء فى ستة فصول كما احتوى على أربعة ملاحق تتضمن قوائم الأفلام والعديد من الصور للعندليب والسندريلا.
ويقر مؤلف الكتاب الذى سعى لكشف النقاب عن حقائق العلاقة بين العندليب والسندريلا بصعوبة التعامل مع سير الشخصيات ذات الجماهيرية الطاغية مثل عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى حيث لاتقبل الجماهير أى مساس بالصور الذهنية لنجومها وهى قضية شائكة تعترض أى باحث عن الحقائق فى سير النجوم والمشاهير.
ويذهب غريب فى كتابه إلى أن عندليب الغناء العربى عبد الحليم حافظ كانت علاقاته العاطفية متعددة لكنه مضى ينكرها “خوفا على علاقته بالجمهور” فيما يمضى الكتاب فى جهد بحثى للإجابة عن اسئلة مثل :”هل كانت هناك قصة حب بالفعل بين العندليب والسندريلا وهل تزوجا أم ان علاقتهما لم تتجاوز مرحلة الصداقة منذ فيلمهما الأول: البنات والصيف الذى عرض لأول مرة فى الثامن والعشرين من مارس عام 1960″؟.
وعبر تناوله للعلاقة بين عبد الحليم حافظ وسعاد حسنى يستعرض أشرف غريب جوانب اجتماعية وفنية وسياسية من التاريخ المصرى فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن العشرين فيما سعى قدر الامكان للنأى بكتابه الجديد عن “النزعة التجارية ومفردات الإثارة واجتهد بوضوح فى التوثيق واستعراض شهادات الكثير من المقربين من النجمين الكبيرين حول طبيعة العلاقة بينهما.
ولعل هذا التوجه فى كتاب “العندليب والسندريلا” والذى يدخل فى اهتمامات التاريخ الثقافى يعيد للأذهان كتاب “الانجليز فى الحب : القصة الحميمة لثورة شعورية” لكلير لانغامير وهو تأريخ ثقافى حميم لغراميات الانجليز منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومع ذلك فإذا كان من الصحيح أن الأجواء كانت منفتحة اجتماعيا فى مصر الستينيات لكنها لم تكن بأى حال من الأحوال مثل بريطانيا التى يسرد هذا الكتاب ماحدث فيها من سقوط لمفاهيم الرومانسية والحب العذرى فى حانات ومراقص حى سوهو اللندنى ولم يعد الزواج هو النهاية الطبيعية للحب!.
ذاك ماسمى بزمن الثورة الحسية فى الغرب وفرق وصرعات وأفكار “الخنافس” و”الهيبيز” و”البيتلز” وبالطبع فان كتاب كلير لانغامير المتخصصة فى التاريخ الاجتماعى يسجل الكثير من مشاهد الحب عند الانجليز فى ستينيات القرن العشرين وشهادات واعترافات شيوخ كانوا حينئذ من الشباب البوهيمى.
وعلى نحو ما عرفت مصر فى النصف الثانى من الستينيات انتشارا لما عرف بموضة او صرعة “الخنافس” فى الأزياء وطريقة تصفيف الشعر مع قدر من التحرر الاجتماعى دون ان يصل الأمر لما عرفه الغرب حينئذ ويوثقه كتاب “الانجليز فى الحب”.
والتوجه المنضبط والمتكيء على التوثيق فى الكتابة عن المشاهير ونجوم الفن تجلى قبل ذلك فى كتاب أصدره اشرف غريب عن الفنانة الراحلة ليلى مراد بعنوان “الوثائق الخاصة لليلى مراد” والذى أرخ فيه لحياة هذه الفنانة الكبيرة التى رحلت فى الحادى والعشرين من نوفمبر عام 1995 بقدر ماكان الكتاب كاشفا لحقائق وجوانب من التاريخ الفنى والثقافى الثرى لمصر.
ولقارئ الكتاب الجديد حول “العندليب والسندريلا” أن يطلع على تفاصيل مهمة فى المشهد الفنى والسينمائى المصرى منذ بدايات الخمسينيات فى القرن الماضى فيما دخل عبد الحليم حافظ عالم الفن السابع أو السينما من باب الغناء ثم بدأ فى التمثيل الميلودرامى “كبطل من ابطال الرومانسية على الشاشة المصرية الكبيرة يحظى باعجاب وتعاطف الجماهير”.
أما “السندريلا” سعاد حسنى فاستهلت مسيرتها السينمائية الخالدة فى قلوب الجماهير منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين وفى فترة كانت مصر فيها تجتاز تحولات سياسية واجتماعية هامة فإذا بسعاد حسنى تقدم النموذج المطلوب للبطلة فى تلك المرحلة وإذا بها تكتسب المزيد من النضج الفنى والإعجاب الجماهيرى طوال سنوات الستينيات وحتى النصف الأول من السبعينيات غير انها عانت من عدم التوافق مع المتغيرات التالية فى المجتمع كما تبدى على وجه الخصوص فى ثمانينيات القرن الماضي.
ولئن رأى مؤلف كتاب “العندليب والسندريلا” أن اجابات سعاد حسنى وعبد الحليم حافظ عن طبيعة العلاقة بينهما كانت تعمد للتأكيد على أنها “مزيج من الاعجاب والصداقة مع نفى وجود أى قصة حب بينهما” فهو يلاحظ أنه عندما خرجت السندريلا عن هذا التوجه وأدلت بتصريحات صحفية تشير لعلاقة حب كان للعندليب ان يرد بقوة وقسوة لينكر مثل هذه العلاقة حتى وصل الأمر فى شهر اغسطس عام 1966 الى “التلاسن بينهما” فى الصحافة الفنية اللبنانية.
وإذا كان الجدل حول طبيعة العلاقة بين العندليب والسندريلا قد استمر حتى بعد رحيلهما عن الحياة الدنيا يدخل فى نطاق البحث عن الحقائق الغائبة فى سير وعلاقات النجوم والمشاهير، فان قضايا الحب حتى بعيدا عن المشاهير تثير احيانا الكثير من الجدل والفضول.
ومنذ نحو عامين أثارت واقعة محزنة لانتحار حبيبين ووصفت “بقصة روميو وجولييت المصرية” حالة من الجدل حول معنى الحب فيما يتساءل بعض المثقفين :هل يختلف الحب باختلاف المكان كما يختلف باختلاف الزمان؟.
والحبيبان المصريان اللذان جمعهما الموت بعد فشلهما فى الارتباط الزوجى بسبب رفض الأهل اثارا حالة من الجدل العام ومع التسليم برفض مسألة الانتحار فان قصة هذا الشاب الذى كان يبلغ من العمر 25 عاما والفتاة التى بلغت من العمر 18 عاما اثارت اهتمام الكثيرين ومن بينهم بعض المثقفين البارزين.
واعتبر بعض المثقفين فى طروحات نشرت حينئذ بالصحف أن القصة التى وصفوها “بقصة حب رائعة وحدث استثنائى فى هذا الزمن” تبرهن على أن الحب مازال قائما كما استعادوا ما كتبه فقهاء عظام فى قضايا الحب مثل ابن حزم فى كتابه “طوق الحمامة” وابن قيم الجوزية فى كتابه “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”.
واللافت أن مواقع التواصل الاجتماعى وما يعرف بوسائط الاعلام الجديد لعبت دورا كبيرا حينئذ فى خلق حالة من الاهتمام العام بقصة الحبيبين اللذين انتحرا فيما كان الشاب الذى اخفق فى الزواج من الفتاة التى تمناها يستخدم بدوره هذه المواقع فى التعبير عن مشاعره ومكنون فؤاده.
وكانت تفاصيل القصة التى دارت بمحافظة البحيرة ووصفت “بروميو وجولييت الجديدة” قد حظيت بمعدلات قراءة عالية فى المواقع الالكترونية للصحف ووسائل الاعلام التى مضت فى وصف تفاصيل تشييع الحبيبين للمثوى الأخير فى مدينة دمنهور فيما ذهب البعض الى ان القصة تعيد للأذهان قصص الحب الخالدة مثل “قيس وليلى”!.
غير أنه حتى قصة خالدة من قصص الحب مثل قصة “قيس وليلى” وجدت مثقفا عربيا كبيرا مثل المفكر والأكاديمى السورى الراحل صادق جلال العظم يسخر منها بشدة فيحولها الى اشكاليات تثير المزيد من الجدل.
فالدكتور صادق جلال العظم سخر بشدة من هؤلاء الذين خلدهم الشعر العربى كنماذج للحب العذرى معتبرا انهم كانوا فى حقيقتهم “نرجسيين” حسبما ذهب فى كتابه ” فى الحب والحب العذري” وان كان قد اعترف فى تمهيده لهذا الكتاب بأنه يتناول موضوعا دقيقا كما اقر بأنه يتعذر الحصول على تعريف “مقبول ومتكامل لظاهرة الحب” رغم ان الفلاسفة والمفكرين درسوا الحب وتأملوا طبيعته منذ اقدم العصور وعالجوه من جميع وجوهه وعلى كافة مستوياته.
وفيما نقل العظم عن المسرحى اليونانى القديم سوفوكليس قوله عن حقيقة الحب المركبة :” الحب ليس وحده الحب..ولكن اسمه يخفى فى ثناياه أسماء اخرى متعددة” يتناول فى كتابه بعض خصائص الحب كونه فى نظره “انفعالا تلقائيا وعفويا بالنسبة لمصدره وبواعثه” معتبرا ان “العاشق ينزع دوما الى سبغ المعشوق بخصال وخصائص لايتصف بها من وجهة نظر محايدة بعض الشىء”.
وفى هذا السياق استشهد العظم بمقولة لأحد الرموز التاريخية للثقافة العربية وهو الجاحظ جاء فيها :” ان العاشق كثيرا ما يعشق غير النهاية فى الجمال ولا الغاية فى الكمال ولا الموصوف بالبراعة والرشاقة ثم اذا سئل عن حجته فى ذلك لم تقم له حجة” !.
والحب الذى ترك اثرا هاما فى تاريخ الانسان وأدبه وفكره يتميز حسب قول الدكتور صادق جلال العظم بكونه ” شقيا تعيسا يائسا..انه الحب الذى لا يعرف النهايات السعيدة لأنه دوما حليف المآسى اما الحب المتوج بالسعادة المستمرة والاكتفاء الدائم ان كان له ثمة وجود على الاطلاق فانه لم يلهم إلا فيما ندر احدا من كبار الكتاب أو عباقرة الشعراء والأدباء ولم يحرك فى الانسان اية مشاعر عميقة تستحق الذكر أو التدوين” !.
ويورد العظم عدة امثلة فى هذا السياق بكتابه من بينها قصة كليوباترا ومارك انطونى وقصة روميو وجولييت وعشق آنا كارنينا لفرونسكى فى رائعة تولستوى الأدبية المشهورة ووقوع كاترين فى حب فريدريك هنرى فى رواية هيمنجواى:”وداعا ايها السلاح” فيما ينقل عن العالم الأندلسى ابن حزم تعليقه المقتضب والحاسم على نهاية الحب المتشائمة:”وقد علمنا ان كل ماله أول فلابد له من آخر”.
ولأن المفكر صادق جلال العظم ادرك بوضوح انه يصدم الكثير من قراء كتابه بارائه فى الحب والحب العذرى والتى حطم فيها الكثير من التصورات المستقرة فى الأذهان حول العشق العذرى فقد تمنى على القاريء لكتابه :”التروى والتسامح وعدم توقع الوضوح التام والانسجام الكامل فى اية محاولة لفهم ظاهرة عاطفية لاتنتعش الا فى الأجواء الغامضة المعتمة ولا تزدهر إلا على أساس المفارقات والتناقضات الماثلة فى أعماق حياة الإنسان ومشاعره”.
لكن صادق العظم لم يلتفت فى غمار هجومه على ما يسمى بالحب العذرى إلى أن أحد أكبر الفلاسفة فى الغرب وهو الألمانى مارتين هيدجر صاحب كتاب “الوجود والزمان” كان يبكى فى حضرة الحب حسبما كشف كتاب صدر بعنوان “رسائل حنة ارندت ومارتين هيدجر ” غير أن هذا الفيلسوف العملاق علم أيضا الحبيبة حنة ارندت وهى مفكرة ألمانية الأصل “كيف ترى العالم وتفهمه”.
وواقع الحال أن الدكتور صادق جلال العظم بدأ فى كتابه وكأنه يحطم بلا رحمة أيقونات خالدة للحب العذرى عند العرب مثل “جميل وبثينة” ليندد بالعاشقين معا وهو ما فعله أيضا حيال نموذج “عروة وعفراء” ناهيك عن “مجنون ليلى” معتبرا أن ما قيل طويلا حول “الوفاء التام والإخلاص المتفانى الذى يتسم به الحب العذرى فيه كثير من المبالغة” كما أشار الى ذلك المفكر المصرى الراحل عباس محمود العقاد فى كتابه “جميل وبثينة”.
وفى تحليله لشخصية “الدونجوان” أو “الشخصية الدونجوانية المعروفة بحياة المغامرات العاطفية” رأى العظم أن حياة الشخصية الدونجوانية ليست إلا “محاولة مستمرة للبقاء بالحب على مستوى العشق العنيف والانفعال الحاد والبحث عن شتى الوسائل والطرق التى تبعد عنه خطر الاستقرار وما يتبعه من وهن فى اشتداد العشق وضعف فى حدته وتعريضه للرتابة والتكرار والملل”.
واللافت أن الدكتور صادق جلال العظم توصل عبر تحليل فلسفى عميق ومقارنات منهجية دقيقة إلى وجود “اتفاق شبه تام” بين ثلاثة من رموز الثقافة العربية والغربية وهم : “الجاحظ وابن حزم وموليير” حول سمات وطبيعة “الشخصية الدونجوانية” التى تتصف بالتقلب السريع والاستجابة المباشرة للمثيرات العاطفية والغرامية المحيطة بها بغية إبقاء الحب فى مستوى العشق العنيف والانفعال الحاد ومن هنا فهذه الشخصية ترفض الروابط العاطفية الدائمة والمستقرة.
بعبارة أخرى يتوق العاشق العذرى دوما لحبيبته ولكنه يمنع نفسه عن وعى وعن غير وعى بشتى الوسائل من امتلاكها حتى لا تخف حدة هذا التوق وتبرد عاطفته ومن ثم “لا جميل كان يريد الزواج ببثينة ولا بثينة كانت تريد الزواج من جميل بل كان كل منهما يريد قبل كل شىء عشقه للآخر وشعوره بالانفعال المتزايد بسبب بعد حبيبته” كما يقول العظم فى كتابه :”فى الحب والحب العذرى”.
ويرى العظم أن “العاشق العذرى لا يحب فى الحقيقة شخص حبيبته بقدر مايحب عشقه هو لها ولذلك يفضل بعدها على قربها لأن البعد يؤجج نار العشق ويترك المجال للعاشق لأن يتلذذ بينه وبين نفسه بأعنف المشاعر وأعذب الأحاسيس”.
ومن ثم يخلص لحكم قد يبدو صادما وقاسيا للغاية لهؤلاء الذين يطربون لقصص الحب العذرى فهو يقول فى كتابه :”يعبر الحب العذرى عن حالة مرضية متغلغلة فى نفس العاشق وتتبين فى ولعه بسقمه وهزاله وحرمانه وتلذذه بألمه وشقائه وتعاسته واستمتاعه بحرقة الشوق الذى لا أمل فى إشباعه”. ويضيف:”لا شك أن الحل المثالى لمفارقة الحب هو إبقاؤه إلى الأبد أو على مدى الحياة فى أقصى درجة ممكنة من الاشتداد والحدة فلا يطرأ عليه وهن أو انحلال أو ملل غير أن الظفر بمثل هذه الحال هو سراب ومحال شأنه فى ذلك شأن الشباب الأبدى وخرافة الحيوية الدائمة أبدا”.
وإذا كانت أراء المفكر السورى صادق جلال العظم الذى قضى فى الحادى عشر من ديسمبر عام 2016 لا تخلو من قسوة على بعض المحبين فلعل احد الآباء الثقافيين فى التاريخ العربى وهو “ابن القيم” قد عبر عن النظرة العربية النبيلة للحب الحقيقى عندما قال منذ زمن بعيد ان الحب هو الميل الدائم بالقلب الهائم وايثار المحبوب على جميع المصحوب وموافقة الحبيب فى المشهد والمغيب.
نعم انتصر الكثير من آباء الثقافة العربية للحب الحقيقى ورغم الجراح احيانا سيبقى الحب منبعا نقيا للإلهام والأحلام والنثر والشعر وروائع القيثار ومواكب الجمال وعذوبة المعانى مع انه ينبض احيانا بمشاعر قد لا تتسع لها الكلمات.
إغلاق