منوعات

العلام: خطاب 9 مارس فتح مسارا آخر في مسلسل العراك بين قيم الديمقراطية وتصورات السلطوية

لقد مرّت 8 سنوات على الخطاب الذي ألقاه ملك المغرب، تفاعلًا مع الاحتجاجات الشعبية التي عرفها المغرب في سياق الحركات المُطالبة بالديمقراطية في بعض البلدان العربية في 2011.

هذا الخطاب شكل تحولا نوعيا في الخُطب الملكية من حيث الشكل والمضمون، فلأول مرة تقريبا يخاطب فيها الملك الشعب المغربي من غير مناسبة وطنية أو دينية، كما أنه خطاب فريد من ناحية كون جلّ كلماته التسعمائة لم تبرح الموضوع الدستوري، مما عُدّ في حينه من قِبل بعض المتابعين “ثورة ملك وشعب ثانية”، بينما تعاملت معه حركة 20 فبراير ومكوناتها بحذر ولم تتجاوب معه بشكل متحمّس، على أساس أنه لم يلبّ مطالبها من حيث طريقة إعداد الدستور، إذ كانت تطالب بانتخاب لجنة تأسيسية لوضع الدستور، بين اقترح الخطاب الملكي الطريقة المتّبعة في إعداد وتعديل الدساتير المغربية التي تتالت منذ سنة 1962، أي تعيين لجنة ملكية تتكلف بصياغة مشروع دستور يتمّ عرضه فيما بعد على الاستفتاء الشعبي. الأمر الذي رفضته حركة 20 فبراير من خلال الاستمرار في تنظيم المسيرات والوقفات الأسبوعية، كما تعمّقت الأزمة بين الحركة ولجنة صياغة الدستور بفعل مقاطعة أنشطة اللجنة ورفض التواصل معها من أجل تقديم المقترحات، فضلا عن الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء الدستوري على أساس أنه “غير ديمقراطي شكلًا ومضمونًا”، وأن الشروط غير متوفرة لكي يكون التصويت بـ “لا” خيارًا صائبًا .

لقد حاولت المؤسسة الملكية التفاعل مع مطالب 20 فبراير من خلال خطاب 9 مارس 2011، أي بعد شهر ونيف من الاحتجاجات التي قوبلت في البداية بالمنع والتضييق، ثم انتزعت فيما بعد حق التظاهر بشكل سلمي وبدون تضييق، وقد تخللت ذلك محطات ساد فيها المنع والعنف من جانب السلطات. جاء الخطاب الملكي بروح حوارية، وبآمال عريضة من أجل طي صفحة الماضي والانفتاح على مستقبل ينقل المغرب من طور الحكم المطلق إلى الحكم المقيد بالدستور.

ولكن ما الذي حال دون أن تأخذ الإصلاحات التي جاء بها خطاب مارس مداها الديمقراطي؟

المبادرة الملكية التي حملها خطاب 9 مارس لم تتجاوز، من حيث منهجية إعداد الدستور، عتبة ما كان سائدا خلال التعديلات الدستورية التي عرفها الدستور المغربي. فعلى الرغم من أن المطالب الشعبية رفعت شعار “الدستور الديمقراطي شكلا ومضمونا”، في إشارة إلى وجوب انتخاب جمعية تأسيسية لوضع الدستور على غرار ما حدث في تونس ومصر، إلا أن التجاوب الرسمي كان عبارة عن تعيين لجنة لوضع دستور جديد (أو بالأحرى تعديل دستور 1996) برئاسة عبداللطيف المنوني – الذي عُيّن فيما بعد مستشارا للملك – وهو ما لم ينل إجماع الفعاليات السياسية والمدنية، ومن ضمنها “حركة فبراير” التي يعود لها فضل إحياء النقاش الدستوري في المغرب، فانقسم المجتمع إلى مؤيد ومعارض ومقاطع. وتكرس هذا الوضع أكثر لحظة طرح مسودة الدستور للاستفتاء، حيث سارعت فعاليات حركة 20 فبراير إلى الدعوة إلى مقاطعة الاستفتاء، بينما أيدته جل الأحزاب المغربية والمنظمات النقابية والهيئات المدنية.

هل نحن اليوم، أمام إغلاق لقوس خطاب 9 مارس أم إن الإصلاحات التي جاء بها الخطاب، كانت تغييرا في ظل الاستمرارية؟

قبل أن ننظر في مآلات الحراك الفبرايري ومسلسل التغيير الذي تلاه، نشير باقتضاب لهذه المرحلة التي فتحت المغرب على ما يكمن وصفه بـ “باراديغم جديد” في علاقة المؤسسة الملكية بالأحزاب السياسية، فما قد يراه المتتبع اليوم أحداثا عابرة سيكون لدى الأجيال القادمة تاريخ يدرس، كما تدرس اليوم وقائع الأمس التي كانت تظهر لمعاصرها أحداثا عادية.

لقد انطلق البحث من مسألة الانتظارات التي خلقها خطاب 9 مارس، لاسيما بالنسبة إلى الذين راهنوا على إمكانية التغيير في ظل الاستمرارية، وتحمسوا للدفاع عن هذا الخيار بكل السبل المتاحة، لكن سير الأحداث، وتعدد الوقائع، أبانا عن أن الواقع، الذي جاءت دينامية 20 فبراير لتغييره، يأبى أن يرتفع، فحتى الأحزاب والهيئات التي رحّبت بخطاب 9 مارس 2011، بدأت بعد الانتخابات التشريعية 7 أكتوبر 2017 تراجع مواقفها، وتتحسس أفكارها وتحيزاتها. لقد لاحظنا خلال البحث كيف أن الأمين العام لحزب العدالة والتنمية انتقل من مدافع مستميت عن السياسة المتبعة من قِبل النظام السياسي إلى أحد أهم المناوئين لممارسات محيط القصر، وأحيانا دخل في مواجهة كلامية صريحة مع الملك. وعلى المنوال نفسه، سار كل من حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية، اللذين انطلقا من المحافظة إلى التشكيك والمجابهة. وأما الحركات الراديكالية سواء أكانت يسارية أو إسلامية، فهي تزداد يوما بعد يوم اقتناعا بجدوى عدم مباركتها لخطاب 9 مارس ومقاطعاتها لكل تجلياته الدستورية والسياسية.

ولقد خلّف هذا المسلسل العديد من علامات الاستفهام حول لماذا وصل الأمر إلى هذا المستوى من التأزّم؟ ولماذا ساءت العلاقة بين أطراف “جبهة نعم للدستور”؟ وإلى أين يمكن أن يصل المغرب في ظل المشكلة التي يعرفها النظام السياسي مع أهم أحزابه السياسية؟ وما تأثير ضعف وإضعاف الحياة الحزبية على مسلسل الانتقال الديمقراطي الذي يسوّق له المغرب الرسمي؟ وما هي المخاطر الاجتماعية التي تَحيق بالمغرب جرّاء إخفاق منظمات الوساطة (الأحزاب، النقابات…) بين المجتمع والدولة في القيام بمهامها سواء لأسباب ذاتية أو موضوعية؟

وفقا لهذا التحليل ما الذي يجري حاليا في المشهد السياسي، هل نحن أمام تراجع عن الإصلاحات التي أتى بها خطاب 9 مارس؟

يمكن القول بأن الآمال التي أحدثها حراك 20 فبراير 2011، والانتظارات التي خلّفها خطاب 9 مارس من السنة نفسه، بدأت تتلاشى كلما بَعُدت المسافة الزمنية عن تلك المرحلة، إلى أن تم تتويج التراجعات ببلاغ 25 مارس 2017، الذي فتح مسارا آخر في مسلسل العراك بين قيم الديمقراطية من جهة، وتصورات السلطوية من جهة ثانية. وما حجم الشكاوى التي بدأت ترتفع من قِبل العديد من الجمعيات الحقوقية والأحزاب السياسية والمنطات المهنية سوى مؤشر واضح، على أن المغرب سائر نحو تفويت فرصة بناء التحول الديمقراطي المنشود، فالطريقة التي تعاملت بها السلطة مع حراك الريف، والأسلوب الذي تم نهجه في سبيل منع الوقفات والمسيرات التضامنية مع معتقلي الريف، كلها أساليب تنتمي إلى ما قبل 20 فبراير 2011، وتؤّشر على أن القوس الذي انفتح سنة 2011، شرع في الانغلاق كلما تم الابتعاد عن هذه السنة، إلى أن تم إحكام إغلاقه يوم 25 مارس 2017. لكن السؤال يبقى قائما: إذا كان القوس الذي انغلق هو ذاك الذي تم فتحه يوم 9 مارس 2011، والذي بموجبه تشكّلت “جبهة نعم للدستور”، فماذا عن الفئات والحركات والديناميات التي لم تحفل أصلا بهذا القوس ولم تهتم بمدخلاته ومخرجاته.. هل ستنضبط لهذا الإغلاق أم ستسلك مسارات أخرى من أجل إرساء أسس التحول نحو الديمقراطية؟

إغلاق