أخبار
المديني: روايات المغاربيين باللغة الفرنسية تقدم درجة لا تطاق من السذاجة
مواقف قويّة عبّر عنها الناقد والأديب المغربي أحمد المديني خلال ندوة استقبلها معرض الشارقة الدولي للكتاب، ناقشَ فيها أكاديميون موضوع “مغاربة العالم وإشعاع الأدب المغربي عبر اللغات والثقافات”، وشارك فيها إلى جانب الأكاديميين والناقدين رشيدة بنمسعود وعبد الرحمان طنكول، وسيّرها الأكاديمي والناقد عبد الفتاح الحجمري، خلال فعاليات المعرض المنظّم بدولة الإمارات، والمستقبِلِ المغرب ضيف شرف دورته الثالثة والأربعين.
المديني الذي سبق أن أقام بفرنسا وكتب عنها أدبيا، قال إن الأدب المغربي بتعبير فرنسي “نتاج ظاهرة استعمارية، باعتبار أن الاستعمار أتى إلى المغرب وأنشأ بنية تعليمية أساسية لتدريسه، وكانت في مقابله المدارس التي أنشأتها الحركة الوطنية”، ثم تابع موضّحا: “هؤلاء الكُتّاب بالفرنسية لا ندينهم، لكن من تعلموا في مدارس الفرنسيين؛ مثل إدريس الشرايبي وأحمد الصفريوي وعبد الكبير الخطيبي… جيل انقرض ولم يعوضه كتاب آخرون في حجمهم؛ لذا مستقبل هذه الكتابة محدود”.
ثم أضاف: “الطاهر بنجلون بحكايته الساذجة ‘ليلة القدر’ أخذ جائزة ‘كونكور’ الفرنسية، والصفريوي كتب عن الفلكلور المغربي لقراء آخرين”، علما أن هذا الأخير “من الجيل المهم جدا”، واليوم “من يكتب من المغاربيين في فرنسا يكتبون كتابة على درجة لا تطاق من السذاجة، وعلى درجة مدهشة من التبسيط، بمغالطات تاريخية، لا أفهم كيف يمكن أن يستسيغ معها قارئ مغربي متعلمٌ هذه الحكايات”.
واسترسل المديني شارحا: “هؤلاء يعيشون مشكلة، ولو أنهم جزء من الأدب المغربي، فالقلة القليلة من تتحدث عن قضايا صعبة شائكة، بينما هم منفصلون عن هذا المدار، ولا تجدهم في أنطولوجيا الأدب الفرنسي، فهم كتاب فرانكفونيون، لا كُتّاب فرنسيون، وهذا مأزق يعيشونه”، في سياق حديثه عن أسماء من قبيل الطاهر بنجلون وليلى السليماني وبوعلام صنصال.
وواصل: “آخر ما قرأت قصة طريفة لسلمى مومني، وهي مغربية تكتب باللغة الفرنسية، عنوان عملها الأدبي (وداعا طنجة)، وهو نص جميل في محتواه؛ قصة كأنها كتبت بالعربية، لشخصية منشطرة بين عالمين، وهاجرت من طنجة بعد اغتصاب جنسي، كي لا تُفتَضح في أسرتها، وظلت سحنتها في مونبولييه الفرنسية تفضحها؛ فظلت معلقة بين الغرب والمغرب”، ليخلص المديني إلى أن الأدب المغربي بتعبير فرنسي، هذا مثاله: “معلق بين هنا وهناك”.
وأضاف الناقد المغربي البارز: “الأدب سوق، وسلعة، وهؤلاء يكتبون ما يُطلب منهم. الكُتّاب بلغة أجنبية من المغرب العربي وشمال إفريقيا يكتبون عمّا تطلبه فرنسا، ولن يكتب الكاتب منهم عن الفرنسيين وحياتهم، ولن يصل إلى التحدث بأحشائه، بل المطلوب منهم تقديم الخرافات والفلكلور والميثولوجيا”.
وزاد: “ليلى السليماني، على مسؤوليتي، لا تعرف تاريخ المغرب، وتوجد أخطاء في روايتها (بلد الآخرين) لا يقع فيها تلاميذ في المستوى الثانوي، ولا يجوز التزوير في التاريخ”، ومثل هذا الجيل “عَكْسَ الجيل المهم جدا، الذي من أقلامه أحمد الصفريوي، يلبون طلبات في سوق، ولست ضدهم، بل أعبر عما أعرفه”.
هذا التفاعل الذي كان مع مداخلة رشيدة بنمسعود التي اختارت في مداخلتها الحديث عن الجزء الأول من رواية ليلى السليماني “بلد الآخرين”، رافقه تفاعل آخر للمديني مع مداخلة الناقد عبد الرحمان طنكول الذي استحضر جوابا للأكاديمي المغربي البارز عبد الفتاح كيليطو، وقال: “لقد ذكر كيليطو أنه ليس هناك أدب مغربي، والمبرّر هو أن هذا الأدب كان غير مدروس، دون تاريخ، أو حضور في الدرس الأكاديمي الذي يدرس الأدب تاريخيا وينمّطه. لقد قال هذا في سياقه، وكان ينظر بعيدا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأدب (…) هذا كله تغير اليوم، وربما لو سئل مجددا لكان جوابه مخالفا تماما؛ فالأدب المغربي حاضر من خلال ملامح بارزة، في النشر، والتوزيع، والنقد، والدراسة، على مستوى مختلف أسلاك التعليم”.
لكن، كان رأي المديني، هو أن “عبد الفتاح كيليطو ليس مرجعا في الأدب العربي، بل هو مستشرق يدرس الأدب العربي، وهو مثلهم لا يعترف بالأدب العربي الحديث، ويريد للعرب أن يبقوا في الأدب القديم”.
وأردف الروائي قائلا: “كل ما كتبه كيليطو لا يحرك فينا ساكنا، لأننا درسنا الأدب الكلاسيكي العربي عند الجهابذة في الستينات، ونُتَفُ كيليطو ومفارقاته حول المعري والجاحظ وغيرهما وقف عندها المستشرقون سابقا”، وكتابته “تشبه ما يسمى في الأدب الأندلسي: التَّوَاشِي، وبالدارجة المغربية نقول: التْْويشِيَّاتْ”، أما “الأدب العربي المغربي فموجود، ونحن موجودون، ويعترف بنا الآخرون”.
نقطة أخرى أثارت النقاش، هي قول الأكاديمي طنكول إن الأدب المغربي الحديث لم يحقّق إلى اليوم، رغم تراكماته، عملا يشكّل “صدمة استطِيقية”، حيث ذكر الناقد عبد الفتاح الحجمري أن الأدب المغربي قد “حقق صدمات استطيقية لا صدمة واحدة”، ووضّح دعواه بالقول: “أعتبر (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون، نصا مؤسسا في مرحلته، حقّق الانتقال إلى شكل جديد في الكتابة، وكذلك (الماضي البسيط) لإدريس الشرايبي، و(الخبز الحافي) لمحمد شكري، وديوان (الفروسية) لأحمد المجاطي”، ومجلة “أنفاس”، وغيرها، ساهمت في نقلة بما راكمته من نصوص إبداعية، وأوراق نقدية.
المديني بدوره تحدث عن الصدمة الاستطيقية بوصفها “مصطلحا ملتبسا؛ فالصدمة بالقياس إلى ماذا؟ الغرب. نحن تعلمنا الرواية الحديثة من الغرب، والنهضة العربية كلها بدأت بالتطلع لما عليه الغرب، ونجيب محفوظ تعلّم من بالْزاك مثلا، وإلى الآن نتعلّمُ لكننا نفعلُ، وأمريكا الجنوبية أعطت نتاجها الخصوصي، فالتفاعل مع الشعوب لا يلغي إنتاجنا. والأدب المغربي فيه سلسلة من الصدمات الاستطيقية، مثل عمل (في الطفولة) لعبد المجيد بنجلون، فهو نص فارق في السرد المغربي، وباهر في زمنه، كما قال ذلك عبد الفتاح الحجمري”.
أما الروائي المغربي محمد الأشعري فتدخّل من بين جمهور معرض الشارقة للكتاب قائلا: “الصدمة الاستطيقية لم يحدثها نص واحد”، بل تحقّقت عبر إنتاج جماعي، ونتيجتها “أننا لا نكتب اليوم (كمغاربة) كما كتبنا في السبعينات أو الستينات”.
لكن عبد الرحمن طنكول تشبّث برأيه، وتوسّع في شرحه: “يوجد أدب مغربي يحصد الجوائز في المغرب والمشرق، كما أصبحت تفرد له أبحاث هامة بالجامعة الوطنية والدولية، ويعرف ظاهرة هامة ربما قل نظيرها، بحيث إنه صار أدبا كونيا، يكتب بجميع لغات العالم، إضافة إلى لغات الوطن الأمازيغية، والدارجة، والعربية”، بالتالي هذا الأدب “يجرُّنا اليوم إلى إعادة النظر في دراسة الأدب والتنظير للأدب، فقد كان يُنظر للأدب بمعايير الانتماء إلى لغة وثقافة وتاريخ وذاكرة الوطن، لكن الأدب لم يعد كذلك منذ الكتابات الأولى لصامويل بيكيت الإيرلندي الأصل الذي يكتب بالفرنسية، وسيوران وجيمس جويس وبعد ذلك كونديرا… وكثير من المغاربيين والأفارقة”.
خير مثالٌ على هذا، وفق المتدخل: “أدب الهجرة، المنزاح، عبر مفهوم ترقية الجذور أو تسامي الجذور، بتعبير عبد الكبير الخطيبي. وبالنظر إلى تزايد عدد الكتاب والكاتبات الذين يعود أصلهم للوطن ويمارسون الكتابة بلغات متعددة من بينها الإسبانية والفرنسية والهولندية… فهذه ظاهرة تفرض بالفعل على المتتبع أن يعيد النظر في براديغمات دراسة الأدب، ولا يستمر في ظلّ النظريات الكلاسيكية فقط”، دون أن يعني ذلك تبني “منظور التشكيك في الأدب”.
هنا، فصّل الأكاديمي في دعواه: “تحدي الأدب هو الإقامة في المستقبل، المنفلت، وتحقيق الصدمة؛ فالأدب يحقق مبتغاه، ولو كان منفلتا، بالتأسيس لشيء خصوصي داخل الكتابة، بأن يوطّن المبدع نصَّه في أسطورة أو أسلوب معين، أو علاقة مع الوجود. الكاتب يعرّج على المستقبل ليعرّج علينا، بالحفر في الذات، وهكذا تتحقق الصدمة”.
ويقدّر طنكول أنه “كان من الممكن للخطيبي بـ(كتاب الدم) إحداث الصدمة، بتوطينه في أسطورة أورفيوس، فلا يمكنكَ الخروج منه كما قرأتَه، شيء ما يحدث في ذاكرتك كقارئ بعد قراءته”، ثم استرسل موضّحا معنى الصدمة الاستطيقية: “واقعية نجيب محفوظ أحدثت الصدمة، بإعادة كتابة الواقعية ببساطتها، في ثلاثيته، وإدخاله دارجة المصريّ، لغةً هجينة، ولغة أجنبية… يوجد لدينا إبداع أدبي مغربي، لكن تاريخ الأدب تؤثثه منارات وكتب، وكذلك يقوم التاريخ بعملية الفرز، والتاريخُ قراءاتٌ متعددة، فآرثر رامبو (الشاعر) في حينه ووقته لم يُفهم وهوجم، لكن نظرية الأدب عادت إليه. الصدمة قد تحدث في حينها وسياقها، أو قد نكتشف بعد ذلك أنه قد كانت صدمة استطيقية لم ننتبه إليها، وهذه خدعة الكتابة ومكرها؛ فهي قد تأتي بعنصر المفاجأة بعد المسافة”.
لكن، هذا لا ينفي أن “الكثير مما يُكتَب للأسف يسقط في المبتذل (…) والأدب المغربي لم يستطع بعد إحداث صدمة استطيقية، كالتي حقّقتها (نجمة) لكاتب ياسين ببحثها عن الذات والهوية ومواشجتها بين الشعري والنثري، وكالتي حقّقها ألبير كامي في (الغريب)، الرواية التي تلامس البياض والفراغ، وفي عمقها تراجيديةٌ”.
ورغم المنجز الغني، إلا أن طنكول يخشى من كون “الكتابات المتأخرة تنحو منحى الواقعية البسيطة أو الكتابة عن الذات بمنحى بسيط، مما يؤجل الصدمة الاستطيقية التي ستعطينا الكونية”، ولو أن له تفاؤلا بصدور عمل يحقّق هذه الصدمة “عما قريب”.
الناقدة رشيدة بنمسعود اهتمت، من جهتها، بالجزء الأول من رواية “بلد الآخرين” للكاتبة المغربية الفرنسية ليلى السليماني، واستهلت مداخلتها بحديث عن “الأدب المغربي باللغة الفرنسية” الذي “نشأ بعد الاستعمار، وهناك من اعتبره من النقاد الفرنسيين ظاهرة عابرة ستنتهي بالاستقلال، لكننا نرى الآن تعدد الكتابات الأدبية حتى بأجنبيات أخرى”، وأدبا عرف “مقاومة ضد اعتباره أدبا مغربيا، إلى أن اعتبره الناقد محمد برادة جزءا من الأدب العربي والمغربي”، ثم اندرج بعد ذلك في إطار “تصور آخر لأدب ما بعد الكولونيالية، والمقاومة الثقافية عبر لغة الآخر، لنجعل منها نموذجا للهُجنة اللغوية وتلاقح الثقافات”.
وذكرت بنمسعود أن “بلد الآخرين” “تحكي سيرة وطن، يرزح تحت الاستعمار، وسيرة الفرد والجماعة، مع مغاربة عاديين، ومقاومين، ومعمرين يستغلون خيرات أرض المغرب التي ليست أرضهم”، رواية كان فيها “موضوع الاستعمار والمقاومة المحكي الإطار”، ووردت فيها مواضيع الزواج المختلط، وتمرد امرأة، والمقاومة، وثنائية المحافظة والتحديث.
ولاحظت المتدخلة أن الرواية فيها “إطناب في الوصف الإثنوغرافي للزي المغربي، والطبخ، وطقوسه، والاحتفالات”، مردفة أن “رؤية ليلى السليماني لموضوعات الاستعمار والمقاومة والتحرير والتحرر، كانت مجحفة في حق بعض شخوص الرواية، بل كانت تنزع منزع أنسنة المستعمر، من خلال الحديث عن التخريب، وكأن هناك إرهابا وإرهابا مضادا”، وكان من بين ما سجّلته أنه “لا لغة بريئة، بل لكل لغة شحنة ثقافية تاريخية، وهنا شحنة إمبريالية (في الفرنسية) تحضر بشكل أو بآخر”.
الناقد عبد الفتاح الحجمري تفاعل مع هذه المداخلة بالقول إن السليماني في “بلد الآخرين” قد قدمت “أفكارا مكررة مستهلكة، سبق أن تناولها إدريس الشرايبي وأحمد الصفريوي وغيرهما حول الهوية والذات… فقط، عبّرت عنها بأسلوب جميل، لكنه لم يقدم إضافة نوعية للأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية”.
وحول الصفريوي و”صندوق العْجَبْ”، ذكر الحجمري أنه “نص إثنوغرافي” لكنه نبّه إلى “خاصية مهمة فيه (…) فقد كان الصفريوي ذكيا، وجعل السارد طفلا، لأن الطفل مَن كان يُسمَح له بالدخول إلى عالم النساء لينقل تلك الأشياء؛ وهذه تقنية سردية من الممكن أن تحدث نقلات، وتُعمِّق الكثير من الأفكار”.
الروائي والشاعر محمد الأشعري تدخل بدوره، ليقول: “لكل حقّ الكتابة باللغة التي يفضلها، لكن علينا تجاوز نوع من الحشر… بإهمال تراكم الأدب المغربي إلى اليوم، واعتباره فقط عنصرا إضافيا، لتراكمات حدثت في لغات أخرى”، مع استنكاره محاولات لـ”جعل ليلى السليماني هي الأدب المغربي”، وتخطيئِه منطلق توجّه يعتبر “العالمية هي الكتابة بلغة أجنبية” بل “العالمية تتحقّق بلغتنا وفي إطارنا. وأكبر دليل على ذلك نجيب محفوظ، الذي لم يخرج من أزقة القاهرة، وصار أدبه أدبا عالميا”.
المصدر : هسبريس