سياسة وعلاقات دولية
عندما جادلَ بنبركة الحسن الثّاني: هل الحزب الواحد يهدد الملكية؟
لمْ يكنْ في حاجة إلى تاريخ وفاة، أو إلى قبرٍ ليزوره الرّفاق والزّوارُ، أو إلى جنازةٍ يمشي خلفها الماشونَ من الوطنِ كما الأعْداء. المهدي بن بركة، الرَّجل المسكونُ بحبّ الوطن الطّامحُ إلى بناء دولة الحق والقانون، كانَ أستاذاً للرياضيات ودرّس الملك الرّاحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية؛ فاختلفا معاً في إيجادِ حلّ لمعادلاتِ السّياسة والإصلاح الاقتصادي وشكل النّظام الأنسب في المغرب.
من الاصْطدامِ مع الملك الرّاحل الحسن الثّاني إلى التّوافق مع رفاقه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على ضرورة مواجهة النّظام بُغية إصْلاحه وتقويمهِ، ثمّ بعد ذلكَ إلى مرحلة النّفي القسري خارجَ الوطن، التي ستكون محطة فاصلة في مسار “شخصية في منتهى الحيوية والذّكاء، انطلقت من جُذورها الشعبية البسيطة، وارْتمت بكل عنفوانٍ في مسار قدرها، بسرعة، وتصميم، وبجرأة وانْدفاع جعلها تذهب من ميلادها إلى لحظة الأبدية المطلقة”، كما كتبَ الأديب المغربي محمّد الأشعري، ستنقلكم جريدة هسبريس إلى عوالم “بن بركة” كما رآها وعاش تفاصيلها الكاتب الصّحافي عبد اللطيف جبرو.
سنحاولُ، في هذه السلسلة، تتبّع النشاط الذي قام به المهدي ورفاقه في الاتحاد الوطني على امتداد سنة، وهي سنة كانت حافلة بالأحداث، وكان من الممكن أن تكون سنة الدخول الحقيقي في عهد الديمقراطية ودولة الحق والقانون بالمغرب؛ لكن خصوم الديمقراطية عمِلوا في 1962 و1963 كل ما في وسعهم لفرض نظامٍ بوليسي بالمغرب.
مفهوم الحزب الواحد والتعددية
سافر المهدي بن بركة إلى فاس يوم الأحد 19 غشت 1962 للاجتماع مع كتّاب فروع ومقاطعات الإقليم الذي ظل قبل ذلك مهمشاً في اهتمامات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
لهذا استعدّ المهدي بن بركة للذهاب إلى فاس من أجل بداية عمل جدّي سيتوج بعد سنة، إذ سيفوز محمد اليازغي بمقعد نيابي لمدينة فاس كأصغر عضو في الانتخابات التشريعية الأولى، وإن كانت النتيجة سيتم إلغاؤها في أعقاب حملات “القمع” لصيف 1963، حسب ما دوّنته جريدة “التحرير”.
يوم الأحد 19 غشت 1962 استمع إذن المهدي إلى عروض قدمها كتاب فروع ومقاطعات فاس عن الحالة التي يعيشها المواطنون في الإقليم وما يواجهونه من ظلم السلطات المحلية.
استقبل المناضلون بفاس المهدي بحماس كبير، واستمعوا إليه وهو يحدثهم عن أوضاع البلاد، في ظل المزيد من التضييق على الحريات الأساسية: “إن الحالة بالمغرب شبيهة بالحالة التي كانت عليها بلادنا قبل عهد الحماية.. أي حالة التدهور والبحث عن السلفات المالية”. لقد خرج الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من المؤتمر الثاني بمذهب اشتراكي واضح يتجاوب مع حاجة البلاد ومع الأهداف التي ننادي بها، وهي استرجاع الأراضي التي يملكها المعمرون والإقطاعيون وإعطاؤها للفلاح المغربي في إطار إصلاح زراعي سليم.
ونقلت جريدة “التحرير” على لسان المهدي تأكيده على ضرورة “إنقاذ الاقتصاد المغربي من الفوضى التي يعيش فيها، والتي تستغلها أقلية تخدم المغربي في إطار إصلاح زراعي سليم”، وزاد: “إيجاد الشغل للعاطلين وتهييء العمل للأجيال المقبلة وإعطاء الكلمة للشعب هو الحل الوحيد”.
ثم شرح المهدي بن بركة للحاضرين التنظيم الذي يجب العمل به حتى يصبح الاتحاديون على أن تم استعداد للقيام بدورهم في فرض احترام إرادتهم، “وذلك بإعطاء الكلمة للشعب ليقول كلمته بمحض الحرية في الاختيارات التي يريدها”.
في اليوم نفسه، أي الأحد 19 غشت 1962، صدر بجريدة التّحرير رد فعل اتحادي على ما نشرته المجلة الفرنسية “باري ماتش” بشأن تصريح ملكي يقول إن “المغرب يفضل على أيّ حال تعدد الأحزاب والهيئات السّياسية حتى يقع احتكاك بين الأفكار والنظريات”.
وفي هذا الصدد يمكن اختصار رأي المهدي في ما نقلته جريدة التحرير بتاريخ 19 غشت 1962: “ونحن عندما نعود بذاكرتنا أكثر من سنتين خلت لنعرف الأساس الذي قامت عليه الحكومة الملكية بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وندرس الاعتبارات والتعليلات التي كانت تقدم آنذاك لتبرير التغيير الحكومي، نجد أنّ نظام التعدد الأحزاب لم يكن ينظر إليه بمنظار اليوم”.
وأضاف المهدي: “كان يقال يومئذ إن تكاثر الأحزاب وبال على المغرب، وسيكون عرقلة دون تشكيل أي حكومة على أساس حزبي، ولهذا فمن الأحسن أن تقوم حكومة ملكية يرأسها الملك نفسه”.
وهكذا يتضح، حسب المهدي، أن نفس الحجة تستعمل للدّفاع عن نظرتين متناقضتين، فإذا قيل ما رأيكم في تعدد الأحزاب؟ يكون الجواب أنها خطر على المغرب وأنه لا يسوغ بحال من الأحوال أن تسند إليها مسؤولية الحكم. وإذا قيل ما رأيكم في الحزب الواحد؟ يقال إنه خطر على البلاد ولا يمكنه أن يؤدي إلى أي نتيجة صالحة.
فما هو الحل إذن بالنسبة للأحزاب؟ وهل بقي حل؟ إن الجواب على مثل هذه السؤال، يزيدُ المهدي، من الصعوبة بمكان. “لأننا سندور في حلقة مفرغة دون أن ننتهي إلى نتيجة. وعلى أي، فريثما نكشف جوابا عن هذا السؤال، يمكننا أن نبرز من الآن بعض الحقائق الدفينة، حيث لا يكون هذا الجدل حول تعدد الأحزاب أو توحيدها إلا غشاوة سطحية تحجبها عنا”.
الحقيقة الأولى، التي يقدّمها المهدي، هي أنه “سواء أكانت الأحزاب متعددة أم لم يكن هنالك إلا حزب واحد، فالمهم هو ألا تسند أي مسؤولية لأي شخص باعتباره يمثل قاعدة شعبية يرتبط معها بميثاق أو مذهب أو فكرة، بل يستلم مهامه على أساس كونه من المحظوظين الذين يجب أن يحمدوا نعمة الله عليهم”.
ووصل المهدي إلى فكرة مفادها أنّ “الأحزاب بهذا المعنى لا تشارك في الحكم، وإنما تخدم الحكم وتدخل من الباب الضيق، باب الخدام، لا من باب الشعبية الواسعة”.
“وهنا نقف على الحقيقة الثانية، وهي أن الأحزاب إذا أرادت أن تقترب من الحكم في الوضع الراهن عليها أن تكون أحزابا مكيفة، مهذبة مقلمة الأظافر، حتى لا يقترن حضورها بأي تشويش. وبعبارة أخرى، ينبغي لها أن تكون من نوع خاص لا تشبه في شيء الأحزاب الموجودة في العالم”.
ويضيف القيادي المعارض: “نعم يمكنها أن ترفع صوتها وتصيح، ولكن في عقر بيتها، بعيداً عن أنظار الناس وأسماعهم؛ أما في الشارع وأمام الجماهير فينبغي لها أن تكون متواضعة، متذرعة بالصبر، وألا يفتر لسانها عن اللهج بالحمد والثناء، ويمكنها أن ننتقد فلانا أو فلانا من المسؤولين الثانويين، وأن تطالب ببعض المناصب؛ ولكن حذار من أن تتعرض لنظام الدولة والشؤون العليا إلا بما تقر به الأعين ويثلج الفؤاد”.
الذي يعطي للأحزاب قيمة، يشدّد المهدي، ليست الأسماء أو الشعارات وإنما قدرتها على تحمل مسؤولياتها والدفاع عن عقائدها ووضوح خطتها ووفائها لما تلتزم به أمام الجماهير. وتجرد الحزب عن هذه الصفات الأساسية يفقده كل وزن في الحياة السياسية، ويجعل وجوده أو عدمه على حد سواء.
أما الحقيقة الثالثة التي يقدمها المهدي بن بركة فتتجلى في “تلك المسرحية التي تدور بين أحزاب متماوتة، والسلطة الحقيقية الفعلية التي تتصرف في كل شيء، وهنا يتجلى أن تلك الأحزاب ما هي إلا ستار كثيف يجول من ورائه الحكم الفردي في صورته المثلى”.