منوعات
أبو حفص.. رحلة سلفي مغربي إلى “نقد التطرف”
يشكل الكاتب والباحث المغربي محمد عبد الوهاب رفيقي الملقب بأبي حفص، منعطفا فكريا بارزا في المغرب، بعدما انتقل من تيار السلفية إلى الدفاع عن الدولة المدنية وانتقاد الحركات المتطرفة.
لكن مسار التحول لم يتحقق بين عشية وضحاها، بل استغرق عقودا لم تخل من المتاعب والسجن والنبش في التراث.
ويحرص رفيقي، البالغ 45 عاما، على إبداء مواقفه باستمرار في نقاشات المجتمع، سواء عبر المنصات الاجتماعية أو من خلال مؤتمرات وندوات ومقالات، لا سيما في القضايا التي تشهد تقاطبا حادا بين دعاة العلمانية والحريات الفردية من جهة، وبين المحافظين وتيارات ما يعرف بـ”الإسلام السياسي” من جهة أخرى.
وكان رفيقي خطيبا في أحد مساجد مدينة فاس وسط المغرب، ثم قضى 9 سنوات في السجن على خلفية أحداث 16 مايو الإرهابية في مدينة الدار البيضاء سنة 2003، واتهم حينها بالمشاركة في التحريض، وهي تهمة ينفيها رفيقي قائلا إنه لم يدع يوما إلى العنف ضد الدولة، حتى وإن كان خطابه وقتئذ متشددا.
طفولة صعبة
ولد رفيقي في مدينة الدار البيضاء وكان طفلا وحيدا لأبويه، لكن هذا “الانفراد” لم يجلب له حظوة ولا دلالا بحسب ما كشف عن “السلفي السابق”، والسبب هو أن والده المحافظ كان صارما في مسألة التعليم وتحفيظ القرآن، حتى وإن تطلب الأمر إرساله إلى قرى ومدن بعيدة، وهو ما يزال طفلا لم يشتد عوده.
يقول رفيقي إنه كان محروما من التفلزيون حين كان صغيرا، لأن والده كان يمنع الجهاز في البيت لأنه “حرام” حسب رأيه، أما التوازن في الأسرة، فتحقق من خلال الأم التي كانت تعمل في شركة الخطوط الملكية المغربية ودأبت على جلب مجلات إلى طفلها الذي عاش طفولة مختلفة عن أقرانه.
وسافر رفيقي وهو ما يزال طفلا إلى مصر مع والده، حتى يلتقي المقرئ عبد الحميد كشك، كما قصد عددا كبيرا من المشايخ، وفي تجربة أخرى سافر إلى أفغانستان بمفرده وهو لا يزال في الخامسة عشرة من عمره حتى يزور والده هناك، في خضم الحرب ضد السوفييت.
ويقول إن المشايخ كانوا يدعون وقتها على الذهاب إلى أفغانستان بذريعة “الجهاد”، وجرى تصوير الأمر بكثير من الإغراء لأجل استقطاب الشباب، وربما لهذا الأمر، يؤكد رفيقي مرارا أن مساره لم يكن طوعيا، بل نتيجة لمناخ السبيعينيات والثمانينيات، أي حينما كان الخطاب الذي بات تطرفا، بمثابة “صحوة” لا تثير انقساما، لولا أن تبعاتها الوخيمة صارت واضحة فيما بعد.
مدرسة السجن
حصل رفيقي على درجة الماجستير في كلية الأدب بمدينة فاس واختص في فقه الأموال بالمذهب المالكي، أما اليوم فهو على وشك مناقشة رسالة الدكتوراه حول العلاقة بين الدين والقانون من خلال دساتير المملكة المغربية.
لكن مدرسة أبي حفص الكبرى ستكون بين أسوار السجن، حيث أتيح له أن يكون وحيدا في الزنزانة ويقول إنه لم يذر كتابا مؤثرا في التراث الإسلامي إلا واطلع عليه.
لكن السجن لم يكن محطة فكرية فحسب، بالنسبة لأبي فحص، بل تجربة قاسية ومؤلمة على المستوى الإنساني، لأن والده كان مسجونا أيضا، أما والدته المريضة فكانت تتولى زيارة الاثنين.
ويقول رفيقي إن والده أخذ الأمور بحسن نية حين كان متحمسا للحركات الإسلامية، بل وكان ينفق من جيبه، ثم تبين فيما بعد أن كثيرين من المحسوبين على الرموز اتخذوا خطابهم ونشاطهم سبيلا إلى جني منافع مالية.
يؤكد أبو حفص أيضا أن قراءاته المتعددة في السجن جعلته يقف على نسبية ما كان مستقرا في ذهنه طيلة السنوات، أما الكتاب الذي كان له وقع كبير على فكره ونظرته إلى محطات مهمة من التاريخ الإسلامي فهو “سير أعلام النبلاء” لأبي عبد الله شمس الدين الذهبي.
تحريك البركة الراكدة
يقول رفيقي، في حديث مع موقع “سكاي نيوز عربية”، إن القصد مما يطرحه في الوقت الحالي هو تحريك البرك الراكدة، “وأعلم أن هذا الأمر سيسبب نوعا من الحركة إيجابية أو سلبية. أعلم أن المواضيع المرتبطة بالدين تشكل حساسية لدى فئات واسعة من الناس في مجتمعاتنا، ومع ذلك أجد الجرأة في التعبير عن قناعاتي بسبب ما عشته وعانيته، هذا التفاعل بمجموعه بما في ذلك الردود المتشنجة أعتبره أمرا داعما لي ومشجعا على المواصلة”.
ويضيف أنه يتلقى عددا كبيرا من الرسائل المشجعة والمتفاعلة “مع ما أطرح، حين يقول لي بعضهم إن ما تطرحه من أفكار شكل نقلة في حياتي، حين يخبرني البعض أنه يجد نفسه في كثير مما أطرحه، حين يتخذ البعض من مساري قدوة، أحس بالارتياح وأحظى بكثير من الطاقة للمواصلة”.
وحين سألنا رفيقي حول ما يمكن القيام به في الوقت الراهن لمكافحة الفكر المتشدد، أكد أنه ليس من السهولة بمكان إصلاح ما فسد خلال عقود من الزمن، مضيفا: “أعي هذا جيدا وأنا أرى أن الفكر المتقدم والذي يريد لأوطانه الالتحاق بركب العالم الأول على مستوى الفكر والحقوق ما يزال ضعيفا مقارنة بغيره، هو أمر مؤسف صراحة، أخاف أن يقع ما وقع خلال القرن التاسع عشر زمن بروز فكر النهضة الذي كان بإمكانه أن يغنينا عن قرون أخرى من التخلف، لكن المحاولة أجهضت لأسباب سياسية”.
وذكر أن “ما نعيشه اليوم في مجتمعاتنا من خلخلة كبيرة على مستوى الأفكار والمعرفة، وهذه الحركة الكبيرة على مستوى الشباب هي فرصة أخرى للتخلص من كثير من الرواسب التي أعاقتنا مدة طويلة، هؤلاء الذين يخوضون اليوم هذه المعركة يحتاجون إلى دعم سياسي ومدني ليتمكنوا من أداء مهمتهم في الإصلاح، وإلا أخاف أن نضيع الفرصة مرة أخرى”.
“الضحية”
وبما أن كثيرين يتهمون أبا حفص بالانعطاف الفكري بعدما كان سببا في اعتناق البعض للفكر المتطرف، سألناه حول ما إذا كان يشعر بشيء من تأنيب الضمير، فأجاب: “بكل صدق لا أشعر بأي شيء من ذلك لسبب بسيط، وهو أنني لم اختر يوما ما كنت عليه، كنت كغيري ضحية تربية ومحيط وسياسات عمومية لم يكن لي يد فيها، أنا وأمثالي من يحتاج إلى تعويض عن اغتيال سنوات طويلة من أعمارهم”.
لكن رفيقي يؤكده فخره، في المقابل، قائلا إنه معتز بما أنجزه من انتقال “بجهد فردي ذاتي، استطعت به تحقيق المصالحة مع نفسي وترقية طريقة نظرتي للحياة، ولدت من نفسي من جديد بقرار ذاتي رغم ماكان يحتاجه هذا الأمر من جهد نفسي ومعرفي كبير، ومع ذلك أقول لولا ما عشته وما عانيته وما كنت عليه؛ وكل ذلك جزء من حياتي متصالح جدا معه، لم أكن ما أنا عليه اليوم”.
وإذا كان أبو حفص قد أنجز هذه المصالحة بجهد يصفه بـ”الذاتي” والتفكير المضني والقراءات المعمقة، فهو يحرص اليوم، على المساهمة في النقاش، ويثير الأسئلة حول عدد من الأمور الشائكة، رغم الانتقادات التي قوبل بها في أكثر من مرة، لكن دراية رفيقي بأمهات الكتب في التراث الإسلامي يجعل خصومه أكثر تريثا في إطلاق التهمة المعتادة، وهي أن الدعاة إلى التجديد لا يفقهون كثيرا في أمور الدين.