ثقافة وادب وفنونسلايد 1

سلسلة مصوّرة تسائل اليقينيّات وتحفز التفكير النقدي بالمغرب والعالم

مِن الإعدام والأسرة إلى الظّلام والنّور، مرورا بمواضيع مثل الثّقافة والفنون وأنواع المعرفة والتّفكير السليم وغيرها… تدعو سلسلة مصوّرة جديدة إلى التّفكير في قضايا المغرب والعالم بطريقة نقديّة.

“مجردفكرة”، سلسلة يقدّمها إدريس القري، الباحث المغربي في الجماليّات، على موقع “يوتيوب”، تطرح في بضع دقائق آراء، وتُسائل مفاهيم وأفكارا رائجة وراهنة “دون حسم أو ادعاء بتملّك الحقيقة”، قصد “مراجعة السائد، وما تكلّس من أفكار، تُعِيقُ أيّ تطوّر”.

وفي سياق “كورونا” الرّاهن، يقول القري في إحدى حلقاته إنّ مِن الآثار الإيجابيّة للجائحة “دفعها القيادات والمجتمعات والنخب والأفراد إلى إعادة النّظر والتفكير في القناعات واليقينيّات”، مستحضرا في هذا السياق ما نتج عن “تعمّق نزعة التخصّص التي رسّخت نوعا من الإيمان بألا شيء يعلو عليه”، وكان من نتائجها “شيوع التخصصات التقنية العلمية الدقيقة، والنّظرة التّجزيئية للظواهر الإنسانية، سياسة واقتصادا وفنا وثقافة وتاريخا واجتِماعا”.

هذا التّوجّه نحو التخصّص الدّقيق، يزيد القري، أدّى، فيما بعد، إلى “سيادةٍ ضارّة للتقنوقراطيين، لأن المتخصص بشكل عمودي دون تكوين شامل تركيبيّ يتعامل مع ظواهر ذات أبعاد وجدانية إنسانية حضارية روحية، وكأنّه ينظر إلى أشياء وأرقام وكمّيّات وأشكال، ويصبح الجانب الوجداني والأخلاقي مهملا في السياسات العموميّة والخاصّة”. وهو ما يأمل الباحث أن نستفيد من درسه، ونُرَكِّز على “النّزعة التّكامليّة”، التي لا يبقى معها المتخصّص في المياه، مثلا، متخصّصا حصرا فيها، “بل يشتغل من أجل الإنسان وسعادته وتوازن الحياة الإنسانيّة، ونظام المجتمع وأخلاقيّاته وقيمه وبيئته”.

وفي حلقة مِن حلقات “مجرّد فكرة” ينبّه الباحث إلى أنّ التلفزيون “شخص آخر معنا في البيت، يؤثر في اللاوعي وله قدرة تأثير تفوق، ربما، قدرة الأبوين”، فينعكس مباشرة على “التفكير، واللباس، والتّصرّف، وتكوين الرأي حول الحياة الاجتماعية”، مما يستدعي “التحكم بمدّة رؤيته وما نشاهده فيه”، والوعي بما يراد به سياسيا واقتصاديا وثقافيا، مع تسجيله، في السياق ذاته، أنّ “التلفزيون الخاضع للربح أكثر، وإرضاء عامة الناس، لا يخدم المجتمع في شيء، بل يكون أداة لتكريس ما هو سائد، ولو ادعى بأنّه يأتي بالخبراء والباحثين”، لأنّ “العبرة بالأفكار والقدرة على تجاوز المألوف”.

ويفرّق القري التلفزيون عن السينما، قائلا إنّ هذه الأخيرة في معناها الراقي “تبصِم وتحفر في الدماغ والعواطف مواقف وأفكارا لا يمكن أن تنسى”.

كما يتطرّق القري، في سلسلته، إلى مواضيع مغربيّة راهنة مِن قبيل نقاش بيان “هذا الظّلّ هنا”، والبيان المضادّ له، اللذين وقّعت عليهما شخصيات ثقافية وفنية حول وضع البلاد والحريات فيها؛ ويلاحظ معهما أنّ “المفاهيم اختلطت بشكل فظيع جدّا”، فنجد “في نفس الخندق الذي يدّعي الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان أو العكس نوعا من الحَشديّة التي تفاقمت، والنّضال السريع دون (…) تاريخ وفهم بعمق لما يُتضامَن عبره”. كما نجد أنّ من بين المدافعين عن المؤسّسات اليوم بشكل مثير للانتباه مَن تعرّضوا لظُلم حقيقيّ في الماضي.

ويسترسل القري معلّقا على هذا الموضوع، الذي أسال مدادا كثيرا وتضاربت فيه الآراء، “أليس المثّقف من يملك ضميرا حقيقيا حتى إذا انخرط في اتجاه ما يعلن ذلك وحقيقته في الملأ، ويكيّف أعماله في خدمة ما اختار الدّفاع عنه والاشتغال من أجله؟”، قبل أن يجمل قائلا إنّ الثقافة ليست “الخلط والتسيّب والوقاحة والتّفاهة والسّطحيّة”، التي في غياب والوسائط الحقيقيّة لنقل الثقافة الحقيقيّة، تساهم في استمرار “نوع من الضبابية والانتهازية والخلط”.

كما يعلّق القري، في إحدى حلقات برنامجه، على قضايا مثل الطفل عدنان، الذي اغتُصِبت طفولته وسُلِبَتْ حياته، محاجّا بأنّ “مِن حقّ الجميع محاكمة عادلة، ولو ارتكب أكبر الجرائم، وإلا سنكون أمام قانون الغاب المسيَّر بالأهواء والانفعالات”، و”من حقّ الجميع المطالبة بتنفيذ القانون بشكل سليم، والتعبير عن انفعالاته”، قبل أن يستدرك باسطا رأيه في النقاش الرائج “في طلب تنفيذ أحكام يحاول العالم التّخلّص منها، مثل الإعدام، تَسَيُّب”.

ويتفاعل القري مع مجموعة من ردود الفعل التي رافقت القضية، مفصّلا في “بؤس مُستَغِلّي آلام الآخرين”، مِن “سماسرة التواصل الجماهيريّ، ومدّعي الثقافة والفنّ”، الذين يستغلّون مثل هذه الفاجعة لـ”اكتساب مزيد من أوراق الشّهرة من جاهلين بلغة الإعلام وخطورة شبكات الاتصال الجماهيريّ وسلطتها”، ليدعو في نهاية حلقة من حلقاته إلى “ترك الطفل ينام في سلام، وترك أسرته تنتظر عمل المحققّين، وتطبيق القانون، واستجلاء الحقيقة”، والتزام المواطن بـ”الاهتمام بأطفاله وأسرته، والقيم التي تحمي الطفولة، وأمهات الصغار، وتعيد للأسرة وهجها ودورها القيمي الأخلاقي التربوي الأصيل”، في “مرحلة انتقاليّة يمرّ منها مجتمعنا، ويتخلّى فيها عن المتكلّس والتقليدي، ويبني ما هو حداثيّ وديمقراطيّ وعقلانيّ”.

ومن بين ما تطرّق إليه الباحث في حلقاته “التطبيع الكامل”، الذي اختارته مؤخّرا دولتان عربيّتان، فيقول: “حقوق الشّعوب لا تضيع مهما بدا من سيطرة عليها وتحويل أو محو لها”، و”الدول القطرية أمام تحديات جديدة داخلية وخارجية”، بعيدا عن ماضي القوميّة العربيّة. وهو ما يسجّل بصدده أنّ “من حقّ أيّ دولة البحث لنفسها عن مأمن، وحماية، وتكتّل استراتيجي ترى أنّه يضمن لها وجودا أفضل”، مع ضرورة حفظ “الروابط التاريخية المشتركة بين الدول العربية، لأنّ التنكر لها تنكر للهوية الوطنية ذاتها، ومن بينها فلسطين، والقدسُ التاريخُ المشترك”، مع الوعي بأنّه “لا يمكن لأيّ حدّ حماية آخرين وهو لا يستطيع حماية نفسه”.

وتغوص حلقات “مجرّد فكرة” في مواضيع من قبيل “المعرفة وأنواعها”، منبّهة إلى أنّ “كلّ شكل من أشكال المعرفة يعطي درجة من الوعي بالمواطنة والحضارة والثقافة والعدالة وقيمة الإنسان والحرية، فتصير سلاحا يتدخّل في موازين القوى داخل الصراع السياسي والمصلحي والاقتصادي داخل كل بلد من البلدان”، وهو ما يرتبط بطبيعة نظام كلّ دولة من الدول؛ فـ”كلّما كان النظام ديمقراطيا، كانت المعارف الأكثر انتشارا هي تلك الأكثر قربا مِن العقل والتّحليل والنّقد واستقلالية الشّخصيّة والرأي، وكلما كان المجتمع أقلّ ديمقراطية، كانت المعارف الأكثر انتشارا ودعما هي تلك التي لا تمكّن المواطن من الكرامة والاستقلالية والقدرة على التفكير الحرّ التحليلي النقدي، ولا تمكّنه من الاستقلال برأي محدّد”.

كما يدلي القري بدلوه في مواضيع من قبيل الدين الذي يراه تعبيرا عن عجز الإنسان أمام الكون و”ضرورة غريزيّة ووجوديّة”، لأنّ الإنسان يحتاج إلى “ربّ يرعاه ويشعره بالدّفء والطمأنينة”، ويدعو إلى ترك الكتاب العزيز لأهل الاختصاص ليتحدّثوا عنه، بعيدا عن المضاربات والمزايدات به. كما ينفي، في حلقة أخرى، وجود “اليقين أي الحقيقة المطلقة التي يظنّ الفرد أنّه يملكها، وأنّها خالدة ونهائية وغير قابلة للنّقد والتطوير”، مع إقراره بوجود “حقائق”، “حَسَبَ طرق تفكيرنا وأدوات بنائنا لها”.

وتقف حلقة من حلقات هذا البرنامج الجديد عند “الظلام والنّور” لتعرض رؤية خاصّة لهما: “الظلام مثل النور يمكن أن يكون في عقل الإنسان وروحه وسلوكه، مع نفسه والآخرين، ومع مجتمعه والعالَم”، فـ”يكون الإنسان في الظلام، مثلا، عندما يكون متشائما أو حسودا أو منغلقا على ذاته، أو عندما يعتقد أنّه الأوّلُ والآخر ومالك الحقيقة، أو لمّا يكون نرجسيّا، أو عندما يعتبر أنّه كمواطن من حقّه الحكم على الآخرين، ومعاقبتهم، ونزع صفة المواطنة عنهم”.

أمّا النور، من منطلق تعدّد القيم الذي تقترحه سلسلة القري، فهو “الإنسان البشوش، المتسامح المنفتح، الصبور، الذي يحترم الآخرين ويقدّرهم ويعي بأنّهم مثله، فيمتنع عن جرحهم واحتقارهم وتبخيس آرائهم”، فيكون “بلغة السياسة الإنسان الديمقراطي، وبلغة الأخلاق الإنسان الخَيِّر، وبلغة الاجتماع المواطن الصالح، وبلغة الحبّ الإنسان الذي يكون غيريّا وقادرا على أن يحبّ، ويكون بلغة الفكر والثقافة الإنسان القادر على ممارسة النّقد الذّاتيّ، واعتبار أنّ وجوده وحده لا قيمة ولا معنى له إلا بوجود الغَير”.

ومن المفاهيم التي يبسط القري رأيه فيها “الأسرة”، التي “ليست فندقا ومطعما وناديا للّقاء”، بل “فضاء للفضيلة والرحمة والوجدان، ورسم وتحقيق معنى الإنسانيّة والثقافة والحضارة، وهي حجر الزاوية في المجتمع، لأنّ فيها يُخلَق الفرد، ويتلقى تعليمه وتربيته وتنشئته وتهذيبَه الأوّل”.

ويدعو القري الأب والأمّ، ذوي السلطة داخل الأسرة، إلى أن يُراعِيا أنّ “من نربّيه اليوم، سيستقلّ بشخصيته ورؤيته، التي قد تكون مختلفة عنا، وسيخرج للمجتمع، الأسرة الكبرى، التي فيها نظام أكثر تعقيدا وصعوبة، وتستدعي قدرة على التّكيّف وإيجاد طريقة لقبول الآخرين واستحسَانِهم (…) والوعي بتعقيد شبكة العلاقات داخل المجتمع”. كما ينبّه إلى ضرورة أن تقوم هذه الأسرة على “أن تكون سلطة الأبوين سلطة صداقة، وشرح، وتفسير، وأخذ باليد، ومساعدة، واحترام متبادل، واحترام للوالدَين بدرجة أولى، وعدم شقّ عصى طاعتهم، دون أن يكون هذا شططا في استعمال السّلطة”.

وينفي القري عن حلقات سلسلته “السّعي إلى إعطاء دروس، أو مساعدة”، بل يقدّمها بوصفها “طرحا لأفكار ومواضيع وأسئلة، دون ذكر مرجعيّات أكاديميّة، ودون عرض يستغلّ افتقار أغلبيّة الناس للحدّ الأدنى من المعرفة، وللقدرة على مراجعة القناعات، وأساليب التفكير، والغاية في العيش، ومن الوجود”.

وتقف سلسلة “مجرد فكرة” ضدّ “الخطر الذي تشكله الحقائق اليقينية، التي تتحول مع مرور الزمن إلى عوائق حقيقية أمام تطوُّر الفرد والمجتمع والدولة”، داعية، بتعبير مُعِدِّها ومقدّمها، إلى “السّعيِ جميعا إلى النور، والتشبّث به، والسَّعيِ إلى أن نكون غيريّين، فنعيدَ النّظر، وننتقل مِن ثنائيّة القيم إلى النّظرة متعدّدة القيم”، لأنّه “ليس هناك أبيض وأسود فقط”، بل تلاوين متعدّدة فيهِما وبينهما.

المصدر: هسبريس

إغلاق