ثقافة وادب وفنونسلايد 1
المهرجانات الثقافية والفنية .. “رئة للتنمية” وصورة واعدة لـ”مغرب جديد”
من منطلق دور الثقافة والفن في خلق ديناميّة تحديث وتنمية، يتحدّث الباحث إدريس القري عن المهرجانات التي تمثّل “رئة التنمية وأوﻛﺴﺠين تنفسها”؛ لكونها “فضاءات لتحقيق الذات، وإبراز المواهب، وتفريغ الاحتقان، وتوجيه الطاقات، ولقاء الخبرات والجماهير”.
ورد هذا في دراسة مقتطفة من كتاب “عتبات في الجماليّات البصريّة – 3/ الفيلم السينمائي المغربي: قضايا الإنتاج والإبداع والترويج”، الذي يؤكّد على أنّ المدن والقرى ليست “تجمعات بيولوجية ترتبط بالحاجات والغرائز فقط”، بل هي “فضاءات عيش مشترك تستمتع بها العين والأذن”، بالصور والنغمات وتعبير الأجساد، والحدائق والمكتبات ودور سينما والمسارح والأروقة والمنحوتات، والطرق منسّقَة التصاميم.
انطلاقا من هذا التصور، يبيّن إدريس القري أنّ اﻟﻤﻬﺮﺟﺎن ينظّم ﻓﻲ ﻓﻀﺎءات ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ، وينشط ويُحيي ويوظف ﻣﻬﻨﺎ ومؤسسات وﻳﺤﺮك وﺳﺎﺋﻞ ﻧﻘﻞ ووﺳﺎﺋﻞ إﻋﻼم وﻳﺸﻐﻞ اﻟﻨﺎس؛ ولهذا فهو في “قلب ﺻﻨﺎﻋﺔ المواطنَة، وتحديث الذهنيات، وﻣﻮاﻛﺒَﺔ ﻣﺸﺮوع اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ الحديث”.
كما يبرز الباحث في الجماليات البصريّة ما راكمَته عدد من مدن المغرب خلال السنوات العشرين الأخيرة في مجال المشاريع الثقافية والفنية، ويستحضر مثال المهرجانات التي تقدّم صورة مغرب الجمال والوعي المدني داخل البلاد وخارجها، انطلاقا من اﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺔ ﻤﻠﻜﻴﺔ، يوجد الإبداع والثقافة في قلبها، ﻟﺒﻨﺎء ﻣﻐﺮب حديث وحداثي.
المهرجانات الثقافية والفنية بالمغرب:
تمهيد أولي
نتحدّث عن اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت الثقافية واﻟﻔﻨﻴﺔ ﻣﻦ منطلق ﻛﻮن الثقافة والفنّ دينامية تحديث وتنميّة، ﻻ تجد ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ واﻟﺤﻀﺎري إﻻ ﻓﻲ ﺳﻴﺎق اﻟﻨﻤﻮذج واﻻﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺎت اﻟﺘﻲ تعتمدها اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت العمومية ﻓﻲ اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ.
سياق ودلالات المهرجانات
ليست اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﺗﺮﻓﺎ وﻻ ﺗﺴﻠﻴﺔ وﻻ ﺗﺰﺟﻴﺔ ﻟﻠﺰﻣﻦ اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ وﻻ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، إﻧﻬﺎ موجودة في قلب الاستراتيجيّات التنمويّة التي هي تفعيل لنموذج تنمويّ معتمد من طرف دولة ما. وإذا ربطنا هذه اﻻﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺎت بالدلالات اﻟﻔﻠﺴﻔﻴﺔ اﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ ﻟﻤﻔﻬﻮم الدولة، سنستنتج منطقيا وﻋﻠﻤﻴﺎ وتاريخيّا ﺑﺄن المحور اﻷﺳﺎﺳﻲ والهدف اﻟﻤﻨﺸﻮد، ﺑﻞ واﻟﻐﺎﻳﺔ اﻟﻤﺒﺘﻐﺎة من اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت العمومية، سواء ﻓﻲ ﻧﻤﺎذﺟﻬﺎ أو ﻓﻲ اﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺎﺗﻬﺎ وﻓﻲ آﻟﻴﺎت وﺿﻌﻬﺎ وﺗﺼﻤﻴﻤﻬﺎ وتنفيذها، إﻧﻤﺎ هو اﻹﻧﺴﺎن.
عندما ﻳﻀﻊ اﻟﻔﻜﺮ اﻟﺴﻴﺎﺳﻲ ﻓﻲ ﻓﻠﺴﻔﺘﻪ وﻓﻲ ﻏﺎﻳﺎﺗﻪ الإنسان ﻣﻨﺘﻬﻰ ﻟﻤﻌﻨﺎه وﻻﺷﺘﻐﺎﻟﻪ، ﻓﺴﻴَﻌﻨﻲ ذلك ﺣﺎﻟﺔ التقدم واﻟﺮﺧﺎء والأمن والاستقرار والسلم والسلام كفضاء طبيعيّ يحدد ﻣﻌﻨﻰ اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ وﻳﻀﻔﻲ على ﺣﻴﺎة اﻟﻤجتمع والدولة والعلاقة بينهما معنى اﻟﻌﻘﻞ والحضارة والثقافة ﻣﻘﺎﺑﻞ الغريزة والتوحّش والطّبيعة.
هكذا تكون اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ مظهرا جماعيا ﻟﻠﺤﻴﺎة اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴﺔ، ﺣﺎﻣﻠﺔ ﺑﺮﻓﻌﺔ لأفكارِ التحديث وﻣﻐﺰى العيش اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ، ودﻻﻻت اﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎرﻫﺎ اﻟﺤﻴﺎة المنظمة اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ اﻟﻤﺴﺘﻘﺮة اﻟﻤﺴﺘﻬﻠﻤﺔ القيم اﻟﻜﻮﻧﻴﺔ اﻟﻨﺒﻴﻠﺔ.
الإنسان في قلب التنمية والمهرجانات رافعة أساسية
من هذا المنطلق تكون اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﺗﻨﻤﻴﺔ ﻟﻺﻧﺴﺎن بدنا وﻋﻘﻼ وروﺣﺎ. فإلى جانب اﻻﻗﺘﺼﺎد والمالية والأمن والنقل والدفاع والصناعة والتجارة، وكلّ ﻣﺎ ﻳﻮﻓﺮ اﻟﺒﻨﻴﺎت اﻟﺘﺤﺘﻴﺔ واﻹﻧﺘﺎﺟﻴﺔ وما يرافقها لتوفير الغذاء واﻟﺴﻜﻦ والخدمات اﻟﺼﺤﻴﺔ وﻏﻴﺮﻫﺎ، ﻫﻨﺎك الثقافة واﻟﻔﻨﻮن وﻣﺎ تستدعيه ﻣﻦ ﺣﻀﻮر ﺟﻮﻫﺮي ﻓﻲ قلب اﻻﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺎت اﻟﺘﻨﻤﻮﻳﺔ وﻧﻤﻮذﺟﻬﺎ.
تلك ﻫﻲ ﺑﻮاﺑﺔ ﻓﻬﻢ ﻣﻌﻨﻰ اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ووظيفتها ﻓﻲ اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﻣﺮﻛﺰﻫﺎ اﻹﻧﺴﺎن. ﻓﺎﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﻛﺎﻟﺘﻜﻨﻮﻟﻮﺟﻴﺎت الحديثة ﻠﻟﺘﻮاﺻﻞ اﻻﺟﺘﻤﺎعي: إﻣﺎ أن تؤسس ﻋﻠﻰ ﺗﻨﺴﻴﻖ محكم تنظيما وﺑﺮﻣﺠﺔ وﺟﻤﺎﻟﻴﺎت ﻋﻠﻰ الاﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺎت التحديثية واﻟﺘﻨﻤﻮﻳﺔ، ﻓﺘﻜﻮن راﻓﻌﺔ ﻟﺘﻘﻮﻳﺔ وﺗﻤﻨﻴﻊ اﻟﺴﻴﺎﺳﺎت اﻟﻌﻤﻮﻣﻴﺔ وإﻧﺠﺎﺣﻬﺎ، أو أﻧﻬﺎ ﺗﻜﻮن ﻏﻴﺮ ذات ﻣﻀﻤﻮن ﻣﺘﻨﺎﺳﻖ ﻣﻊ ﻣﺸﺮوع اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ اﻟﻤﺴﺘﻘﺒﻠﻲ، ﻣﺠﺘﻤﻊ التواصل والديموقراطيّة والقيم واﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، فتكون آﻟﻴﺔ لتدريس التقليد واﻟﺠﻤﻮد، وسدا ﻣﻨﻴﻌﺎ أمام تغيير الذهنيات وتحديث اﻟﺮؤى وﺗﻨﻮﻳﺮ مناطق اﻟﻌﺘﻤﺔ، ﻓﻲ أنماط سلوك ﻣﻘﺎوم ﻟﻔﺘﺢ الطاقات والقدرات.
المهرجانات بين تصريف العنف وبناء قيم النظام الاجتماعي
تحتاج الدولة، ﻛﻤا يحتاج اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ، ﺗﺼﺮﻳﻔﺎ ﻟﻠﻌﻨﻒ وﻟﻠﻨﺰاﻋﺎت ولِلخلافات ﺑﻴﻦ ﻣﻜﻮﻧﺎﺗﻬﺎ الفرديّة واﻟﻤﺆﺳﺴﻴﺔ والجماعيّة، ﻛﻲ ﻳﺴﺘﻤﺮ اﻻﺳﺘﻘﺮار والسلم واﻷﻣﻦ. ﻳﺘﻌﻠﻖ اﻷﻣﺮ ﺑﺜﻼﺛﺔ شروط ﻟبناء الثروة وتطويرها وتشييد اﻟﻤﺆﺳﺴﺎت المسؤولة ﻋﻦ إﺷﺒﺎع اﻟﺤﺎﺟﺎت وإرﺿﺎء الرغبات. وﻟﻤﺎ ﻛﺎن ﻣﻦ المستحيل ﺗﻠﺒﻴﺔ ﻛﻞ الرغبات وإشباع كل الحاجات، كان لا بدّ من نظام اجتماعيّ يتأسس على منظومة ثقافيّة وصناعات فنية واسعة الانتشار، وأخرى نخبويّة إبداعيّة محميّة – ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ اﻟﻘﺎﻧﻮن ﻓﻲ تعدده وﺗﻨﻮﻋﻪ – كما ﻳﻨﺒﻨﻲ على أفكار وقيم ﻟبناء وترسيخ آليات الحوار.
هذه القناعات وهذه اﻵﻟﻴﺎت ﻻ تكتسب وﻻ يُعاد إﻧﺘﺎﺟﻬﺎ ﺑﺎﻟتعليم والتربية والإعلام فحسب، فهذا لا يكفي ولَم يكف يوما، ﺑﻞ ﻻ بد ﻣﻦ منظومة ﺛﻘﺎﻓﻴﺔ وإبداعية تمكّن، ﺑﺎﻹﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ اﺳﺘﻜﻤﺎل اﻟﺘﺮﺑﻴﺔ واﻟﺘﻨﺸﺌﺔ بعد اﻷﺳﺮة والمدرسة واﻟﺠﻤﻌﻴﺔ واﻟﺤﺰب واﻟﻨﻘﺎﺑﺔ… من تغذية الذوق اﻟﻌﺎم وﺗﻔﺘﻴﻖ القدرات اﻟﻌﺎدﻳﺔ واﻟﻌﺒﻘﺮﻳﺎت اﻻﺳﺘﺜﻨﺎﺋﻴﺔ واستثمار المواهب وتطوير الميول وﺗﻮﺟﻴﻪ طاقة الذكاء ﻧﺤﻮ منظومة اﻟﻘﻴﻢ اﻟﺠﻤﺎﻋﻴﺔ والذاكرة اﻟﻤﺸﺘﺮﻛﺔ. ﻋﻤﺎدُ ﻛﻞ ﻣﺎ ﺳﺒَﻖ اﻟﻬﻮﻳﺔ الوظنية ﻟﻜﻦ ﻓﻲ ﺳﻴﺎق ﻛﻮﻧﻲ ﻣﻨﻔﺘﺢ ﻋﻠﻰ اﻟﻐﻴﺮ وﻋﻠﻰ اﻟﺘﻨﻮع والتعدد ﻓﻲ ﺗﺴﺎﻣﺢ وتعايش وﺗﻔﺎﻋﻞ يطور اﻷﻧﺎ واﻵﺧﺮ ﻓﻲ الوقت نفسه.
ﻻ ﺗﺰدﻫﺮ المهرجانات اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ واﻟﻔﻨﻴﺔ اﻟﻤﻐذية للمواطنَة ولأبعادها الإنسانيّة العميقة، وﻛﻤﺠﺎل ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻋﻤﻠﻲّ لقيم اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ والحداثة والمدنية، إﻻ ﻓﻲ مدن ﺗﺤﻤﻞ عظيم ﻣﺎ خلد ذﻛﺮ مدن ﻓﻲ ﺗﺎرﻳﺦ اﻟﻔﻜﺮ واﻟﻔﻦ ﻣﺜﻞ: إﺷﺒﻴﻠﻴﺔ ومراكش وأﺛﻴﻨﺎ وغرناطة واﻟﻘﺎﻫﺮة ودﻣﺸﻖ وباريس ولندن وﻓﺎس، على سبيل المثال ﻻ اﻟﺤﺼﺮ. نتحدث عن مدن كانت ومازال ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻓﻀﺎءات للإبداع واﻻﺑﺘﻜﺎر ﻓﻲ ﻛﻞ ﻣﺠﺎﻻت اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن.
رﺋﺔ اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ وأوﻛﺴﺠﻴﻦ ﺗﻨﻔﺴﻬﺎ هي اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت إذن. إﻧﻬﺎ ﻓﻀﺎءات ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﺬات وإﺑﺮاز المواهب وتفريغ الاحتقان وتوجيه الطاقات عبر تقديم القدوات والنماذج اﻟﺠﻤﻴﻠﺔ واﻟﺮﺻﻴﻨﺔ والقويّة. فضاءات ﻟﻘﺎء اﻟﺨﺒﺮات وﻟﻘﺎء اﻟﺠﻤﺎﻫﻴﺮ، ﻣﻦ اﻟﺸﺒﺎب ﺧﺎﺻﺔ، ﻣﻊ ﻣﻦ ﻳﻠﻬﻤﻮﻧﻬﻢ وﻳﺴﺎﻫﻤﻮن ﺑﺎﻟﺘﺎﻟﻲ ﻓﻲ ﺗﻨﺸﺌﺘﻬﻢ وﺗﻮﺟﻴﻪ “ﻋﻨﻔﻬﻢ” واﻹﺟﺎﺑﺔ ﻋﻠﻰ ﺗﺴﺎؤﻻﺗﻬﻢ، وﻓﺘﺢ آﻓﺎق اﻟﺤﻠﻢ أمام ﻃﻤﻮﺣﺎﺗﻬﻢ.
المهرجانات والمدن
المدن العريقة المتحضرة والمعشوقة والشهيرة واﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺔ اﻟﻤﺘﺄلقة ﻫﻲ المدن اﻟﺘﻲ “لا تنام” (ﻓﺮاﻧﻚ ﺳﻴﻨﺎﺗﺮا وﻧﻴﻮﻳﻮرك) تصنع أجمل وأﺷﻬﺮ اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﻛﻤﺎ ﺗﺴﺘﻤﺪ ﻣﻨﻬﺎ ﺟﻤﺎﻟﻬﺎ وروﻧﻘﻬﺎ وﻗﻴﻤﺘﻬﺎ اﻟﺤﻀﺎرﻳﺔ.
ﻣﻦ ﻗﻮة اﻷﻣﻦ واﻟﺠﻤﺎل والنظام والتنظيم، تستطيع أن ﺗﺠﺪ ﻓﻲ اﻟﻤﺪن “اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻨﺎم”، ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ وﻓﻲ أي وﻗﺖ، ﻣﻜﺎﻧﺎ ممتعا، (ﺛﻘﺎﻓﻴﺎ وﻓﻨﻴﺎ)، ﺗﺬﻫﺐ إﻟﻴﻪ.
ليست اﻟﻤﺪن واﻟﻘﺮى ﺗﺠﻤﻌﺎت ﺑﻴﻮﻟﻮﺟﻴﺔ ﺗﺮﺗﺒﻂ ﺑﺎﻟﺤﺎﺟﺎت واﻟﻐﺮاﺋﺰ ﻓﻘﻂ، إﻧﻬﺎ ﻓﻀﺎءات عيش ﻣﺸﺘﺮك ﺗﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﻬﺎ اﻟﻌﻴﻦ واﻷذن: ﺻﻮر وﻧﻐﻤﺎت وﺣﺮوف وأﺟﺴﺎد ﺗﻌﺒﺮ. ﺣﺪاﺋﻖ ومكتبات ودور سينما ومسارح وأروقة ومنحوتات تزيّن طرقات منسّقة التصاميم ومدهشة الترتيب والتزيين في وظيفية سلِسَة للعربات والرّاجِلين، اﻷﺻﺤﺎء وذوي اﻟﺤﺎﺟﺎت اﻟﺨﺎﺻﺔ.
الرباط مدينة الأنوار
هنا أشرب ﻗﻬﻮة وﻋﻠﻰ ﺑﻌﺪ أﻣﺘﺎر أﻗﺘﻨﻲ ﻛﺘﺎﺑﺎ وبعدها أشاهد ﻓﻴﻠﻤﺎ وأستمتع ﺑﻤﻨﺤﻮﺗﺔ قرب ﺣﺪﻳﻘﺔ ﻣﺪﻫﺶ ﺗﺼﻤﻴﻤُﻬﺎ وﻣﻨﻌﺸﺔ رواﺋﺢ ﻧﺒﺘﺎﺗﻬﺎ وﻓﻀﺎءاﺗﻬﺎ اﻟﻤﺎﺋﻴﺔ واﻟﺨﻀﺮاء. ﻫﻜﺬا هي ﻋاﺻﻤﺘﻨﺎ اﻟﺮﺑﺎط ﻣﺪﻳﻨﺔ اﻷﻧﻮار اﻟﺘﻲ ﺗﻨﺘﻈﺮ ﺗدﺷﻴﻦ ﻣﺴﺮﺣﻬﺎ اﻟﻜﺒﻴﺮ وﻣﻌﻬﺪﻫﺎ ﻟﻠﺮﻗﺺ واﻟﻤﺴﺮح والموسيقى وﻣﺪرﺳﺘﻬﺎ اﻟﺒﺎرﻳﺴﻴﺔ ﻟﻠﻔﻦ، بعدما ﺗﻢ ﺗﺄﻫﻴﻞ ﻧﺴﺒﺔ عالية من بنياتها اﻟﺘﺤﺘﻴﺔ ﺑﻤﺎ يجعلها من أجمل المدن المغربيّة بل والعالَميّة.
لهذا هي ﻣﻮﺟﻮدة اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ والفنية الكثيرة بها والتي ترجو تضاعفها:
فضاءات تجعلك تتنقّل ﻣﻦ ﻣﺴﺮح ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺨﺎﻣﺲ إﻟﻰ اﻟﻤﻜﺘﺒﺔ اﻟﻮﻃﻨﻴﺔ ﻟﻠﻤﻤﻠﻜﺔ، ومن سينما روﻧﻴﺴﺎﻧﺲ أو ﻗﺎﻋﺔ اﻟﻔﻦ اﻟﺴﺎﺑﻊ إﻟﻰ ﻣﻮﻗﻊ ﺷﺎﻟﺔ اﻷﺛﺮي، وﻣﻦ ﻣﺘﺤﻒ اﻟﻔﻦ اﻟﻤﻌﺎﺻﺮ إﻟﻰ ﻣﻘﻬﻰ قلعة اﻟﻮداﻳﺔ اﻟﻤﻄﻠﺔ ﻋﻠﻰ رﻗﺮاق “ذاك اﻟﻌﻈﻴﻢ”، ﻓﻀﺎء ﻳﺠﻌﻠﻚ ﺗﺘذﻛّﺮ اﻟﺒﺼﻤﺔ اﻟﻤﻠﻜﻴﺔ اﻟﻬﺎﺋﻠﺔ ﻋﻠﻰ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﻣﺘﺠﺬرة ﻓﻲ اﻟﺘﺎرﻳﺦ ﺗﺸﻬﺪ ﻋﻠﻰ ذﻟﻚ ﺻﻮﻣﻌﺔ ﺣﺴﺎن وﺿﺮﻳﺢ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺨﺎﻣﺲ المطلين ﻋﻠﻰ ﻧﻬﺮ أﺑﻲ رﻗﺮاق.
تجمع ﻣﻬﺮﺟﺎﻧﺎت اﻟﺮﺑﺎط ﺑﻴﻦ اﻟﺸﻤﺎﻟﻲ واﻟﻐﺮﺑﻲ، اﻟﻤﻮﺳﻴﻘﻲ واﻟﺸﺎﻋﺮ، اﻟﺴﻴﻨﻤﺎﺋﻲ واﻟﺮﻳﺎﺿﻲ، اﻟﻤﺴﺮﺣﻲ واﻟﻔﻮﺗﻮﻏﺮاﻓﻲ، اﻟﺮواﺋﻲ واﻷﻛﺎدﻳﻤﻲ، اﻟﻨﺎﻗﺪ والمبدع، اﻹﻋﻼﻣﻲ واﻹداري، الشاب والشيخ، الباحث واﻟﺘﻘﻨﻲ، اﻷوروﺑﻲ واﻹﻓﺮﻳﻘﻲ واﻵﺳﻴﻮي واﻷﻣﺮﻳﻜﻲ… ﻟﻴﺘﺤﺎوروا ويتبادلوا الخبرات واﻟﺘﺠﺎرب واﻟﺮؤى اﻟﺠﻤﺎﻟﻴﺔ واﻷﻓﻜﺎر واﻷذواق، ﻓﻲ ﻋﺎﺻﻤﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ ﺗﺸﻬﺪ ﻋﺼﺮ ﺗﺤﺪﻳﺚ ﻣﻐﺮﺑﻲ واﻋﺪ وﻧﻬﻀﺔ وطنية ﺗﻌﺘﺰ بتعدد ﻫﻮﻳﺎﺗﻬﺎ وﻏﻨﻰ أرﺿﻬﺎ وﺣكمة ﻋﺎﻫﻠﻬﺎ.
المهرجانات اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ والفنية ﻣﺴﺎر تحديث ملكي استراتيجي
منذ ﻣﺎ يزيد ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ ﻋﻠﻰ اﻋﺘﻼء ﺟﻼﻟﺔ اﻟﻤﻠﻚ ﻣﺤﻤﺪ اﻟﺴﺎدس ﻋﺮش المملكة، ﺗﻀﺎﻋﻒ عدد اﻟﺠﻤﻌﻴﺎت اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ والفنية ﻛﻤﺎ ﺗﻀﺎﻋﻒ عدد اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﺑﺄﺷﻜﺎﻟﻬﺎ وألوانها. تغطي هذه اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﻣﺠﻤﻞ التراب الوطني: ﺳﻴﻨﻤﺎ وﻣﻮﺳﻴﻘﻰ ورﻳﺎﺿﺔ وﺗﻠﻔﺰة ورﻗﺺ … وﻟﻌﻞ ذلك ﻣﺎ ﻳﺴﺎﻫﻢ ﻓﻲ اﻟﺮﻓﻊ ﻣﻦ ﻣﺴﺘﻮى اﻟﺴﻠﻮك المدني، واﻻﻧﻔﺘﺎح ﻋﻠﻰ زواﻳﺎ نظر ﻠﻟﺤﻴﺎة وﻠﻟﻔﻀﺎء اﻟﻌﺎم وﻟﻌﻨﺔ اﻟﻌﻴﺶ اﻟﻤﺸﺘﺮك ﺑﺸﻜﻞ واﺿﺢ ﺗﻄﻮره ﺑﺒﻼدﻧﺎ.
عشرون ﺳﻨﺔ ﻣﻦ اﻻﺷﺘﻐﺎل ﻋﻠﻰ ﺑﻨﻴﺎت ﺗﺤﺘﻴﺔ ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ ﻓﻲ ﺗﻄﻮر ﻟﻢ ﻳﺴﺒﻖ ﻟﻪ ﻣﺜﻴﻞ في تاريخ اﻟﻤﻐﺮب الحديث. وﻋﻠﻰ اﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ اﻟﺘﻘﻠﺺ اﻟﻤﻠﻤﻮس اﻟﺬي شهده عدد اﻟﻤﻜﺘﺒﺎت ودور السينما واﻟﻤﺴﺎرح ﺑﺎﻟﻤﻐﺮب، إﻻ أن ﺗﻄﻮر عدد اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت والجمعيات أثر ﺑﺸﻜﻞ واﺿﺢ ﻋﻠﻰ الحياة المدنية ﺣﺎﻣﻼ ﻣﺸﺮوع التحديث والتّمدين اﻟﻤﻠﻜﻲ ﺑﺸﻜﻞ ﻳﺴﺎﻳﺮ المجهود الضخم المبذول في تهيئة المدن الكبرى وتحويلها إلى فضاءات عيش مشترك مدني يرقى وﻇﻴﻔﻴﺎ إﻟﻰ مستوى اﻟﺠﻤﻊ ﺑﻴﻦ اﻟﻮﻇﻴﻔﻴﺔ وﺑﻴﻦ ﻣﺘﻌﺔ اﻟﺤﻴﺎة اﻟﻴﻮﻣﻴﺔ: اﻟﺮﺑﺎط وطنجة وﻓﺎس وأﻛﺎدﻳﺮ واﻟﺪاﺧﻠﺔ والعيون ووجدة والدار البيضاء وإفران وتطوان والناضور… مدن عدت ﻣﻌﺮوﻓﺔ ﺑﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎﺗﻬﺎ السينمائية والموسيقية واﻟﻔﻨﻮن اﻟﺸﻌﺒﻴﺔ واﻟﻤﺴﺮح ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﺘﻮى اﻟﻘﺎري واﻟﻌﺎﻟﻤﻲ.
لكل مدﻳﻨﺔ ﻣﺴﺮح ﺟﻤﻴﻞ، وﻟﻠﻌﺎﺻﻤﺔ ﻣﺴﺮﺣﻬﺎ اﻟﻜﺒﻴﺮ ﻛﻤﺎ ذﻛﺮﻧﺎ ﺑﻤﺎ ﻳﻠﻴﻖ ﺑﻌﺎﺻﻤﺔ ذات تاريخ ﻏﻨﻲ وﺣﺎﺿﺮ ﻳﺸﻬﺪ ﻋﻠﻰ دﻳﻨﺎﻣﻴﺔ ﻣﻬﺮﺟﺎﻧﻴﺔ ﺗﺘﺴﻢ ﺑﺎﻟﺘﻨﻮع والتعدد واﻟﻐﻨﻰ.
ينتظم اﻟﻤﻬﺮﺟﺎن ﻓﻲ ﻓﻀﺎءات ﻣﺘﻨﻮﻋﺔ وﻳﻨﺸﻂ وﻳﺤﻴﻰ وﻳﻮﻇﻒ ﻣﻬﻨﺎ وﻣؤسسات وﻳﺤﺮك وﺳﺎﺋﻞ ﻧﻘﻞ ووﺳﺎﺋﻞ إﻋﻼم وﻳﺸﻐﻞ اﻟﻨﺎس: أفليست اﻟﻤﻬﺮﺟﺎﻧﺎت ﻓﻲ قلب ﺻﻨﺎﻋﺔ المواطنة متحديث الذهنيات وﻣﻮاﻛﺒﺔ ﻣﺸﺮوع اﻟﻤﺠﺘﻤﻊ الحديث الذي أطلق استراتيجيات تشييده صاحب اﻟﺠﻼﻟﺔ ﻣﻨﺬ أﻛﺜﺮ ﻣﻦ ﻋﺸﺮﻳﻦ ﺳﻨﺔ؟
لم ﻳﻜﻦ التحديث ﻳﻮﻣﺎ ﺷﻴﺌﺎ ﻏﻴﺮ ﻛﻮﻧﻪ ﻣﺸﺮوعا شموليا راﻓﻌﺘﻪ اﻟﻜﺒﺮى وﺿﻤﺎﻧﺔ اﺳﺘﻴﻌﺎﺑﻪ ودﻋﻤﻪ وإﻧﺠﺎﺣﻪ اﻟﻘﻨﺎﻋﺎت اﻟﺠﻤﺎﻫﻴﺮﻳﺔ. إن اﻟﺜﻘﺎﻓﺔ واﻟﻔﻨﻮن بهذا اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻓﻲ قلب اﻻﺳﺘﺮاﺗﻴﺠﻴﺔ اﻟﻤﻠﻜﻴﺔ ﻟﺒﻨﺎء ﻣﻐﺮب حديث وحداثي، ﻣﻦ ﻣﻈﺎﻫﺮ ﺗﻘﺪﻣﻪ ﻣﻬﺮﺟﺎﻧﺎﺗﻪ اﻟﺘﻨﻮﻳﺮﻳﺔ اﻟﻤﺬﻳﻌﺔ ﻟﺼﻮر ﻣﻐﺮب اﻟﺠﻤﺎل واﻟﻮﻋﻲ المدني ﻋﺒﺮ رﺑﻮع اﻟﻤﻤﻠﻜﺔ وﺧﺎرﺟﻬﺎ ﻋﺒﺮ آﻻف اﻟﻀﻴﻮف اﻟﺬﻳﻦ يكتشفون ﺛﻘﺎﻓﺔ ﻋﺮﻳﻘﺔ وإﺑﺪاﻋﺎ ﻣﻐﺮﺑﻴﺎ ينتظر المزيد ﻣﻦ الدعم واﻟﺒﻨﻴﺎت، ﻟﻴﺆﻛﺪ ﺣﻀﻮره أﻛﺜﺮ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ معركة اﻟﺘﻨﻤﻴﺔ والتحديث اﻟﻤﻠﻜﻲ الثابت واﻷﺻﻴﻞ الحكيم.
المصدر: هسبريس