منوعات

مشاريع متعثرة .. المدن الجديدة بين الطموح الكبير والفشل الذريع

في المغرب أُطلقت عدة مشاريع ضخمة وطموحة، من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، لكن جلها تعثر، وألقيت المسؤولية بسبب ذلك على مختلف السلطات لعدم الوفاء بالالتزامات وغياب المواكبة والمحاسبة، لكن المسؤولين خرجوا سالمين وبقي المتضرر الأكبر هو المواطن.

في هذه السلسلة سنُحاول رصد بعض المشاريع التنموية الضخمة، التي أُطلقت في السنوات الأخيرة في عدد من المدن بأغلفة مالية كبيرة، لكنها لم تنجح. أسبابها متعددة ونتائجها وخيمة أدت إلى ما لا يخطر على بال أحد بسبب التقصير.

في الحلقة الثانية نُعيد تركيب قصة برنامج “المدن الجديدة”، التي أطلقها المغرب قبل سنوات في إطار التدابير الهادفة إلى تقليص العجز السكني ومحاربة دور الصفيح، خصوصاً في ظل تسجيل نسبة السكان في المدن بحوالي 60 في المائة، وهو رقم يتوقع أن يرتفع إلى 70 في المائة سنة 2030.

كان ورش المدن الجديدة بدءًا من 2004 يتوخى مواكبة التوسع العمراني والتطور المجالي، اللذين ما فتئ يعيش على إيقاعهما المغرب، وكان التركيز أساساً على المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط ومراكش بهدف امتصاص المستويات المختلفة للعجز السكني، لكن بعد مرور سنوات وسنوات اصطدم الطموح الكبير بالفشل الذريع.

15 مدينة جديدة

الهدف كان طموحاً: إنجاز 15 مدينة جديدة في أفق 2020، وكان البدء بمدينة تامنصورت قرب مدينة مراكش، التي صدر بخصوصها قرار ملكي بتاريخ 21 دجنبر 2004. وقد مثلت هذه المدينة المنطلق التأسيسي لسياسة المدن الجديدة بالمملكة.

كان من بين المدن الجديدة المراد إنجازها تامسنا، التي تقع بضواحي غرب العاصمة الرباط، وزناتة بنواحي الدار البيضاء، والخيايطة جنوب الدار البيضاء، وتكاديرت بنواحي أكادير، وملوسة على بعد كيلومترات من طنجة.. لكن دراسات وزارة إعداد التراب الوطني والتعمير والسكنى وسياسة المدينة، الوصية على القطاع، أقرت بشكل صريح بفشل أغلب مشاريع المدن الجديدة بسبب وجود إكراهات مرتبطة بغياب نص قانوني وعدم التزام المتدخلين وضعف التخطيط والدراسة.

استثمار بـ100 مليار درهم

اللافت في الأمر أن المغرب بدأ هذا البرنامج الطموح لاستقبال أكثر من مليون نسمة، واستثمار متوقع بقيمة 100 مليار درهم، دون وجود قانون مؤطر للعملية، حيث تم الاكتفاء بالاستناد على المقتضيات المرتبطة بالتجزئات السكنية.

وقد أكدت الوزارة الوصية أن هذه المشاريع واجهت تحديات كثيرة تتعلق بربط هذه المناطق بالمدن المركزية، وتوفير التجهيزات الأساسية والمرافق العمومية، وأيضاً انخراط الفاعلين المؤسساتيين الآخرين، والتزام كل طرف بإنجاز المشروع.

أبرز مثال ظاهر للعيان هو مدينة تامسنا، التي صارت اليوم مدينة شبحاً لا أحد يريد أن يسكن فيها، ولا أن يشتري فيها عقاراً أو سكناً، نظراً إلى عدم توفر كل متطلبات مدينة قادرة على جذب السكان إليها.

لقد واجه برنامج المدن الجديدة عراقيل على مستوى الحكامة والتدبير، فليس هناك جهاز مسؤول عن تدبير المدن الجديدة، بالإضافة إلى جود ثغرات في الإطار التعاقدي الحالي، وعدم احترام الالتزامات من قبل كل الأطراف.

مرت السنوات وتم التطبيل لهذه المدن، لكن لم ينجح الأمر، مما دفع السلطات إلى إطلاق برامج للإقلاع أملاً في بعث الروح في هذه المدن، التي ولدت ميتةً بسبب غياب وعي حقيقي وشامل بإكراهات إنجاز مدن جديدة بالمغرب.

المتتبعون لهذا الورش الذي ضيعت فيه الدولة مجهوداً كبيراً، يجمعون على غياب منهجية عمل ناجعة قبل الإنجاز، أبرزها دراسة فعاليته على الآماد القصيرة والمتوسطة والطويلة، فبرنامج كهذا يستوجب دراسة كبيرة تنخرط فيها جميع القطاعات الحكومية، لأن الأمر لا يتعلق بإنجاز بنيات تحتية، بل توفير فضاء عيش لجلب سكان.

غياب التجربة

يؤكد إدريس الفينا، الاقتصادي المتخصص في قطاع العقار، أن فشل برنامج المدن الجديدة راجع إلى عدم توفر المغرب على تجارب سابقة في هذا المجال، لأن المدن الحالية بُنيت على التراكم الذي عرفته المدن القديمة فقط.

ويلفت الفينا الانتباه إلى أن المغرب لا يتوفر على إطار قانوني يُنظم بناء مدينة جديدة، مشيراً إلى أن إطلاق مشاريع بناء المدن الجديدة تم في إطار القانون المنظم للتجزئات السكنية، على الرغم من أن هناك فرقاً كبيراً بين التجزئة السكنية والمدينة.

ويوضح الخبير الاقتصادي أن “المدينة يجب أن تكون قائمة بذاتها، ومستقلة اقتصادياً على مستوى جميع الخدمات الضرورية، في حين أن المدن الجديدة التي نراها اليوم لا تدخل في هذا الإطار، وهي بعيدة كل البعد عن ذلك بسبب عدة عوامل ساهمت في عدم نجاحها”.

وأوضح الفينا أن إطلاق المدن الجديدة لم يتم بناءً على اتفاق حكومي جماعي لضمان التزام مختلف المعنيين، بل اقتصر الأمر على وزارة الإسكان، التي كانت الفاعل الوحيد والأساسي في هذا الورش، وهو ما لم ينتج نجاحاً كلياً كما كان متوقعاً.

وبالإضافة إلى ما سبق، يذكر الفينا أن المدن الجديدة انطلقت في فترة انتعاش عقاري كبير وكان عليها إقبال لافت، لكن بما أن الظروف اليوم تغيرت، وأصبح الركود يخيم على القطاع صارت المدن الجديدة بعيدة عما كان مبرمجاً في السابق.

ولا يتفق الفينا مع الرأي القائل بالفشل الكامل لهذه المدن، إذ يقول: “هذه ليست مشاريع فاشلة، بل مشاريع كبيرة مهيكلة للتراب المغربي، لكن تغير الظروف والمعطيات بين الانطلاق واليوم ساهم في عدم انخراط جميع المكونات الحكومية في إنجازها، فحتى الاتفاقيات التي وقعت مع باقي الوزارات لم ينفذ جلها، رغم الإشراف الملكي والحكومي”.

الدولة ضد مصلحة الدولة

وفي نظر الأستاذ بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي بالرباط، فإن جزءا من فشل هذه المدن يرجع إلى بعض القطاعات والمؤسسات الحكومية، ويعطي مثالا على ذلك بمدينة تامسنا، التي قال إنها “كانت المدينة الوحيدة بمنطقة سيدي يحيى زعير، ولم تكن هناك تجزئات بينها وبين مدينة تمارة، لكن اليوم نرى أن الوكالة الحضرية رخصت لعدد من التجزئات على طول الطريق الرابطة بين المدينتين، وهو ما تسبب في انخفاض الإقبال على المدينة الجديدة، مما يعني أن الوكالة الحضرية لعبت ضد مصالح الدولة في هذا المجال”.

حين أقرت الوزارة الوصية بفشل أغلب مشاريع المدن الجديدة، أطلقت برامج إعادة إنعاشها من جديد، لكن ما حدث أن هذه البرامج التي كانت تتوخى تجاوز التعثرات، تعثرت هي الأخرى، وهذا الأمر يربطه الفينا بكون “القائمين عليها ليسوا من ذوي الاختصاص، ويمكن أن نسمي ما قاموا به “ماكياج” شكليا وسطحيا لا أكثر”.

يتضح اليوم بعد مرور سنوات أن ما كان يراهن عليه المغرب من أجل إطلاق جيل جديد من المدن لتجاوز الضعف المسجل في المدن الحالية من حيث المعمار والبنيات فشل، وأصبحت المدن الجديدة تضم دور صفيح ومعماراً رديئاً بسبب السكن الاجتماعي عكس ما أعلن عنه سابقاً.

مسؤولية الحكومة

تعتبر المدن الجديدة، التي فشلت في الخروج إلى أرض الواقع بشكل ناجح، ضمن المشاريع المهيكلة المتعثرة، التي كان يتوجب مساءلة كل من كان سبباً في ذلك، وعلى رأسهم الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الإسكان وسياسة المدينة. لكن رغم هذا الفشل وجد عدد من المواطنين المتحمسين أنفسهم وسط مدن مهجورة لا تتوفر على بنيات تحتية ضرورية ولا نقل يقلهم إلى مقرات عملهم يومياً، ولا أمن يقيهم شر “الكريساج” الذي يحيط بأغلب هذه المدن.

لكن المتجلي أن الفشل في تحمل المسؤولية والإضرار بمصالح المواطنين وهدر استثمارات الدولة لا يجر أي مسؤول عمومي إلى المحاكم. في المقابل يجتر المواطنون في هذه المدن الفاشلة مرارة السكن بضواحي المدن الكبرى في أوضاع تنعدم فيها ظروف العيش الكريم.

نحن اليوم على بعد أشهر قليلة من 2020، وهي السنة التي كان من المفترض أن تكون فيها المدن الجديدة الـ15 كلها جاهزة وآهلة بالسكان، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فلا المشاريع كلها نجحت، ولا تم القضاء على دور الصفيح، ولا تم تخفيف الضغط على التجمعات السكنية الكبرى.

(هسبريس)
إغلاق