سياسة وعلاقات دولية
لحظة النطق بحكم المهداوي..تفاصيل ساعات اغتيل فيها الأمل والفرح لتعوضهما النكسة!
الصدمة… صراخ هنا وهناك، ورؤوس تلتفت حولها، كأن أصحابها أصابهم السعار. طفلة صغيرة تجري من دون هدف، تتوقف، وتمسح دموعها المنهمرة، ثم تصرخ “بابا”، وتطلق العنان لساقيها علها تبعدها عن صوت قاس جدا، كأنه نفير يوم القيامة “حكمت المحكمة على حميد المهداوي بـ3 سنوات سجنا نافذا..” تلاها سواد انتزع أحشاءها، وحوله إلى كومة لهب لا يستطيع جسدها الصغير تحملها، قبل أن تتلقفها والدتها بوشرى الخونشافي، وتقول لها بصوت صار مبحوحا من كثرة الصراخ، إنها يجب أن ترفع رأسها عاليا، وتفتخر لأنها ابنة الصحافي حميد المهداوي، الذي يرفض الانبطاح.
امتلأت القاعة 7 في محكمة الجنايات في الدارالبيضاء عن آخرها بكوكتيل من الحضور، ابتسامات عريضة، ونظرات متفائلة، وأطفال الصحافي حميد المهداوي ينطون كفراشات طائشة في روضة حالمة، وهم محاطين بحنان يدغدغ مساحات المرح، والحبور في حركاتهم، حتى القاضي أظهر حزمة حب، وحنو أبوي، وهو يلمح طفلا صغيرا يتجول وسط القاعة، ورمقه بابتسامة مثقلة بالعطف الأبوي.
عقارب الساعة تجاوزت التاسعة مساء، والمحكمة تبدو على أهبة الاستعداد لاستقبال حكم، قد يحولها إلى قاعة أفراح تملؤها الأهازيج، والاحتفالات بانتصار للديمقراطية، التي يصارع المغرب إلى تثبيتها، وتسويقها أمام المحافل العالمية، أو يحيلها إلى مجزرة قاسية تُذًبَّحُ فيها كل القيم الجميلة في البلاد، وتجهز على آخر شريان في جسم الكرامة بعد الحكم القاسي في حق ناصر الزفزافي، قائد حراك الريف، الذي أدين بـ20 سنة سجنا، لأنه طالب بجامعات، ومستشفيات، ومعامل تضمن كرامة سكان الريف.
ساعة الصفر وصلت، القاعة 7 غصت بالحضور، نظرات، وترقب، وعبارات مواساة، وتفاؤل يتبادلها الجالسون في المقاعد الخشبية، ويشجعون من خلالها عائلة المهداوي، التي حلت في المحكمة محملة بجبال من الآمال، وتحاول أن توسع صدرها كثيرا لاحتضان زوج، وشقيق، وابن قال في كلمته الأخيرة أنه صحافي، ويفتخر بذلك.
أدخل المهداوي إلى القفص الزجاجي، وهي إشارة إلى أن اللحظة الحاسمة قد حلت، وقفت عائلته، والمتعاطفون معه، وبادلوه التحايا، والابتسامات العريضة، رافعين شارات النصر، التي بادلهم إياها.
وما هي إلا لحظات حتى رن جرس القاعة إيذانا بدخول هيأة الحكم، وخفقت معها القلوب، وارتفعت معها درجة التوتر، واشرأبت الأعناق، وتسمرت الأعين على شفتي القاضي علي الطرشي، وهو يتلو حكمه في القضية. ونزلت الصاعقة.. “باسم جلالة الملك.. حكمت المحكمة على حميد المهداوي بثلاث سنوات سجنا نافذا، و3000 درهم غرامة”.
وكان النطق بالحكم على المهداوي كقنبلة كيماوية أتت على آخر قلاع التعقل، والترزن في صفوف عائلته، فشقيقته أسماء لم تعد تدري ما تصنع، وهي تخبط صدرها، الذي لم يعد يقوى على الحمل الثقيل، كان الخبر الصاعقة أقوى من أن تتحمله سيدة بمشاعر رقيقة، وقلب مناضل يؤمن بالحقيقة، وببراءة حميد، الذي رضع معها ثدي الوطنية المشبعة بالإصرار على الحق، وانتفاء الذات.
لم تعد أسماء تهتم لا بعدسات كاميرات الصحافيين، الذين ملؤوا ساحة المحكمة، التي بدت لها تنزف دما عبر جدرانها، ومكبرات الصوت، ومقاعد قاعاتها، قبل أن تستوعب ما جرى، وتمتشق جرأتها، وتعيد ترتيب أفكارها لتواجه ميكروفونات ممثلي المنابر الإعلامية، وتبث من لواعجها ما أسعفتها به كلماتها.
بوشرى الخنشافي، التي قال المهداوي فيها، أثناء مرافعته في كلمته الأخيرة، قبل النطق بالحكم، إنها تعيش بأمان، وهو داخل السجن، لم تعد تشعر بما وصفها به زوجها، إذ صارت تتفقد ملابسها، وكأنها تشعر بالعري، والتجرد منها، وكالمجنونة، لم تعد تعرف هل تمسح دموعها، أم تبتلع غصة في حلقها كأنها جمرة حارقة، أم تضغط صدرها لإنعاش رئتيها، واستعادة أنفاسا، التي انحبست، غير أنها بحثت عن أبنائها، واحتضنت طفلتها بين ذراعيها، وضمتها، وهي تشرح لها أن والدها بطل، وأن السجن يضم أيضا أناسا شرفاء، ومظلومين، وأحرارا لن تثنيهم زنازين السجن القاسية عن بث الحب، والكبرياء في الأجساد المنهكة.
وحده والد حميد المهداوي، بدا هادئا، وهو يمسح عينيه تارة، ويقف كتمثال لا يعرف ماذا حل بهذا العالم القاسي، دون أن يعدل من جلبابه الأبيض الصوفي الذي حشر فيه جسده، وحرص على تنظيمه في السابق ليبدو في أبهى حلة، وهو يعانق ابنه، حميد، الذي رفع رأسه عاليا، غير أنه انتظر أمام أدرج المحكمة حتى قرابة منتصف الليل، لعل أحدا يأتي إليه، ويخبره بأن الأمر كان فقد مزحة ثقيلة، وكاميرا خفية، ثم يظهر ابنه بابتسامته، وحبوره الطفولي، انتظر طويلا دون أن يحدث ذلك، وإنما قدمت ابنته أسماء، وعانقته بقوة وطلبت منه رفع رأسه عاليا دون وجل لأنه والد الصحافي حميد المهداوي، وتستمر الصدمة.