منوعات
عندما دعا الراحل بنبركة إلى الانفتاح على اللغات والتّشبث بالتعريب
لمْ يكنْ في حاجة إلى تاريخ وفاة، أو إلى قبرٍ ليزوره الرّفاق والزّوارُ، أو إلى جنازةٍ يمشي خلفها الماشونَ من الوطنِ كما الأعْداء. المهدي بن بركة، الرَّجل المسكونُ بحبّ الوطن الطّامحُ إلى بناء دولة الحق والقانون، كانَ أستاذاً للرياضيات ودرّس الملك الرّاحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية؛ فاختلفا معاً في إيجادِ حلّ لمعادلاتِ السّياسة والإصلاح الاقتصادي وشكل النّظام الأنسب في المغرب.
من الاصْطدامِ مع الملك الرّاحل الحسن الثّاني إلى التّوافق مع رفاقه في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على ضرورة مواجهة النّظام بُغية إصْلاحه وتقويمهِ، ثمّ بعد ذلكَ إلى مرحلة النّفي القسري خارجَ الوطن، التي ستكون محطة فاصلة في مسار “شخصية في منتهى الحيوية والذّكاء، انطلقت من جُذورها الشعبية البسيطة، وارْتمت بكل عنفوانٍ في مسار قدرها، بسرعة، وتصميم، وبجرأة وانْدفاع جعلها تذهب من ميلادها إلى لحظة الأبدية المطلقة”، كما كتبَ الأديب المغربي محمّد الأشعري، ستنقلكم جريدة هسبريس إلى عوالم “بن بركة” كما رآها وعاش تفاصيلها الكاتب الصّحافي عبد اللطيف جبرو.
سنحاولُ، في هذه السلسلة، تتبّع النشاط الذي قام به المهدي ورفاقه في الاتحاد الوطني على امتداد سنة، وهي سنة كانت حافلة بالأحداث، وكان من الممكن أن تكون سنة الدخول الحقيقي في عهد الديمقراطية ودولة الحق والقانون بالمغرب؛ لكن خصوم الديمقراطية عمِلوا في 1962 و1963 كل ما في وسعهم لفرض نظامٍ بوليسي بالمغرب.
مجلس ملكي لمناقشة مشاكل التعليم
انعقد بمقرّ كلية العلوم بالرباط يوم الخميس 18 أكتوبر 1962 المجلس الأعلى للتعليم ولمواكبة أشغاله. تشكّلت لجنة متابعة بمبادرة من المهدي بن بركة، وأخذت تجتمع في منزل الهاشمي بناني ويشارك فيها محمد الفاروقي، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ومحمد الحلوي ومحمد بوزوبع، باعتبارهم يمثّلون المنظمة الطّلابية في المجلس الأعلى.
قبل اجتماع المجلس الأعلى، تحدّثت الأخبار عن ميثاق للتعليم قدمته الوزارة المعنية إلى الحكومة التي درسته في مجلس وزاري قبل عرضه على المجلس تحت عنوان “مشروع إصلاح التعليم”.
في افتتاحية لجريدة “التحرير”، طرحت قيادة الاتحاد، ومن ضمنها المهدي بن بركة، الذي يعتبر أن “من واجبات الحزب تتبع قضايا التعليم، سواء في ما يرجع إلى تعميمه أو صلاحيته لتلبية حاجة الشّعب إلى ثقافة وطنية صحيحة، وحاجيات البلاد إلى إطارات في مستوى مقتضيات العصر ومتطلبات النمو الاقتصادي والاجتماعي”.
لو تولى المهدي وزارة التعليم..
ينقل عبد اللطيف جبرو في مذكراته أنّ المهدي سبق أن ترأس اللجنة الملكية التي عهدت إليها فجر الاستقلال مهام إصلاح التعليم؛ ولو تمكن علال الفاسي من تشكيل حكومته في نهاية 1958 لأصبح المهدي بن بركة وزيرا للتربية الوطنية.
وكان اسم المهدي وارداً في التشكيلة الوزارية التي أعدها الرئيس عبد الله إبراهيم، قبل تنصيب حكومته يوم 24 دجنبر 1958. وهناك العديد من المهتمين بمشاكل التعليم ممن يرون أن “المغرب كان من الممكن أن يربح الكثير لو أن المهدي تحمل مسؤولية وزارة التعليم في بداية الاستقلال، لما كان له من حزم وصرامة في اتخاذ القرارات”.
كان المهدي كما ينقل جبرو يهتمّ بجانب أساسي، وهو تكوين الإطارات المتوسطة ومدى الحاجة الملحة إليهم بالنسبة لحركة الاقتصاد وحركة المجتمع. وكان لا يقبل فكرة سلك الإنقاذ..لأن هذه الفكرة تنطلق من اعتبار أن هذه أفواج من الشباب والطلبة حكم عليهم بالفشل ويتعين البحث عن مخرج لإعدادهم للمستقبل.
في حاجة إلى سياسة تعليمية صحيحة
ويشير جبرو إلى أنّ عقد المجلس الأعلى للتعليم في منتصف أكتوبر 1962 تحت الرّئاسة الفعلية للملك كان دليلا على مدى شعور الدولة بخطورة مشاكل التعليم. وكان الحسن الثاني خاطب في افتتاح أعمال المجلس الأعضاء وقال إن مشاكل التعليم وإن كانت ستجد حلها مع الزمن فإن المغرب لم يفلح في رفع التعليم إلى المستوى المنشود، نظراً إلى اضطراره إلى العمل بنظام تناوب الأطفال على نفس القسم لقبول أعداد كبيرة من التلاميذ في القسم الواحد.
وأشار الملك إلى أن قلة المعلمين والأستاذة الأكفاء أدت حتما إلى ضعف مستوى التعليم. ومما جاء في الخطاب الافتتاحي للمجلس الأعلى للتعليم أن المخطط المعروض على أنظار المجلس الأعلى سيكلف الدولة نفقات مبلغها مائتا مليار فرنك لمدة خمس سنوات.
وكان هذا المبلغ بالذات موضع استفسارات ما بين أعضاء اللجنة التي كانت تجتمع في منزل الهاشمي بناني؛ ما حدا بالمهدي إلى أن يوحي بكتابة افتتاحية وضعت 200 مليار موضع تساؤل.
ويقول المهدي في هذا الصّدد: “إن تقدير مسؤوليات القول حق قدرها يحتم علينا أن نلاحظ أنه ليس في مستطاع المغرب، لا ماليا ولا إداريا، أن يتوفر على مثل هذا المبلغ المالي من جهة، ولا أن ينفقه طبقا للمخطط المرسوم من جهة أخرى”.
ويشرح المهدي فكرته بالقول إنّ معنى تخصيص مبلغ 200 مليار للتعليم ولمدة خمس سنوات هو أن الدولة ستخصص لهذا المرفق وحده في ميزانية التجهيز ما معدله 40 مليار كل سنة. فإذا تذكرنا أن ميزانية التجهيز ككل سوف لا تتعدى في السنة القادمة، وعلى أكثر تقدير، مبلغ 60 مليار، فإنه من السهل على أي واحد أن يستنتج أن النسبة التي ستخصص للتعليم ستبلغ ما يقارب 80% من مجموع ميزانية التجهيز ابتداء من السنة المقبلة.
ويخلص المهدي إلى فكرة أساسية، وهي أنّ الدولة ستكون أمام اختيارين: “إما أن تعدل عن التوازن الذي يراعي بين مختلف مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فتخصص حقيقة 80% من نفقات التجهيز للتعليم، وتخصص 20% الباقية للأشغال العمومية والفلاحة والتصنيع والجيش والشرطة والجندرمة…إلخ.. وإما تقرر الاحتفاظ بالتوازن بين سائر المرافق الحيوية، كما توجب ذلك ضروريات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فتكون إذاك في اضطرار منطقي وحسابي لرفع ميزانية التجهيز إلى ما يقرب 200 مليار فرنك لتعادل نفقات التعليم”.
وفي افتتاحية جديدة صدرت في الصفحة الأولى لجريدة “التحرير”، كتب المهدي أنّ “مشكلة التعليم هي المشكلة الجوهرية الأولى في بلادنا، وأن حلها يتطلب سياسة واضحة وتصميماً شعبياً مستمرا ووسائل كافية”.
ويعتقد المهدي أنه من الواجب فعلا تخصيص عشرات الملايير سنويا للتعليم، وتخصيص عشرات الملايير لمختلف المرافق الأخرى الاقتصادية والاجتماعية”، وزاد مستدركا: “لكننا في نفس الوقت نرى أن النظام القائم اليوم عاجز كل العجز، لا فقط على تشخيص الإرادة الشعبية الهادفة، ولا بالتالي على إيجاد وضمان سياسة تعليمية صحيحة”.
ويتوقف المهدي عند أوضاع التعليم التي اعتبرها “فاسدة”، إذ “على كل أستاذ أن يواجه تعليم 95 تلميذاً في المعدل. وليس من الممكن في مثل هذه الظروف تقديم تعليم كاف ولائق؛ فالأستاذ إذا توصل إلى نتيجة ما لن يعدو أن يكون حارس أطفال لا أقل ولا أكثر، وبالإضافة إلى هذه الصعوبات نجد أن غالبية الأستاذة لا يتوفرون على شهادة الدروس الابتدائية”.
لكن الأخطر من ذلك، حسب القيادي والمعارض الوطني، هو أن “معظم الأطفال الذين يطردون ينتسبون إلى طبقة اجتماعية في مستوى اقتصادي منخفض. وهناك ظاهرة أخرى هي أن أولياء التلاميذ الذين يتقلبون في الفقر والجهل لا يستطيعون أن يحتفظوا بأبنائهم في المدرسة حتى في حالة نجاحهم”.
التعريب..
بعد ذلك سيعلن المجلس الأعلى تعلقه بالمبادئ الأساسية للمدرسة النموذجية الوطنية للمغرب كمدرسة عربية التلقين، سواء في المواد العربية أو الاجتماعية أو في المواد الطبيعية. وطالب المجلس بالشروع في وضع تصميم للتعريب من شأنه أن يهيئ الأطر الضرورية للتعليم بالعربية في مختلف مراحله، ويعرضه ضمن مشروع إصلاح التعليم على المجلس الأعلى للتربية الوطنية في أقرب الآجال.
مباشرة بعد وروود هذه الاستنتاجات كتب المهدي افتتاحية في الموضوع واعتبر أنّ “شعور بعض المسؤولين بخطورة الحالة وسلبية النتائج حملهم، ولا شك، على التفكير في وضع ميثاق للتعليم. ولكن هؤلاء أنفسهم لم يدركوا أن السياسة التعليمية جزء لا يتجزأ من السياسة العامة للبلاد”.
ويعدد بن بركة أخطاء هؤلاء المسؤولين التي وقعوا فيها، وهي “أنهم لم يقدروا المقومات الوطنية حق قدرها عندما اقترحوا مبدأ ازدواج اللغة. فرغم أن هذا الازدواج حتمي في المرحلة الانتقالية الحاضرة، فإن الذين تقدموا بالاقتراح كانت تنقصهم الشجاعة الكافية التي يتطلبها اقتراح مثله”.
ويختم المهدي تقييمه لحصيلة المجلس الأعلى بأن “على المغرب الآن إما أن يكون له اختيار في اتجاه التاريخ، وبالتالي أن تكون لنا الشجاعة الكافية لمسايرة المطامح الشعبية، وإما أن يبقى سجيناً لما تصنعه عناصر الرجعية والإقطاع، وبالتالي نبقى نتخبط في النتائج السلبية التي تؤدي إلى سياسة الارتجال”.