ثقافة وادب وفنونسلايد 1
“ذاكرة مدينة” .. كتاب ينفض غبار النسيان عن سيدي يحيى الغرب
في كتاب بعنوان “سيدي يحيى الغرب، ذاكرة مدينة”، يبَرّ محمد الحبيب لطفي، ابن المدينة، مسقط رأسه، مؤبّدا تجربتها كتابة، بـ”النبش في ذاكرة هذه المدينة المناضِلة”، آملا أن تسعفه “ذاكرته الشخصية” في “نفض غبار النّسيان” عن ذاكرة هذه المدينة التي أحبّها، وكان شاهد عصره على نموِّها.
ويؤرّخ كتاب “سيدي يحيى الغرب، ذاكرة مدينة”، الذي أعدّه ورسَمَ غلافه الكاتب محمد الحبيب لطفي، للذّاكرة التاريخية والثقافية والسياسية والبيئية والاقتصادية والدينية، لمدينة توجد على هامش تاريخ المملكة.
ويذكّر الكاتب في مطلع مؤلَّفِه بأنّ الاستعمار الفرنسيّ كان سببا في نشأة بعض المدن المغربيّة، مثل مدينة “بور(ميناء) ليوطي”، القنيطرة حاليا، التي أنشأ المعمّر العام ليوطي ميناءَها النّهري ليصدّر عبره خيرات منطقة الغرب إلى فرنسا، ومدّد منها خطّا سككّيا صوب دار بالعامري، وبنى قنطرة واد تيفلت، سنة 1917، بالمنطقة التي ستنشأ بها مدينة سيدي يحيى الغرب، سنة 1919، على بعد مدينة القنيطرة بـ27 كيلومترا.
ويكتب لطفي أنّ مدينة سيدي يحيى الغرب، المحاطَة بشجر الأوكالبتوس الذي استنبتَه المهندس الفرنسي ميناجي، نزح إليها العديد من الباحثين عن العمل، خاصّة في المجال الغابويّ، لتصير “مدينة بروليتارية تضمّ خليطا من السّكّان الوافدين من جهات المغرب الأربع، حاملين عاداتهم وتقاليدهم”؛ وهو ما يتجلّى في الاحتفال بالأعياد والمناسبات، حيث “تتنوّع الأهازيج بين الصحراوي كرقصة السيوف أو رقصة الكدرة، ورقصة الهيت الغرباوية، و”تحيار” عيساوة وحمادشة، وغير ذلك”…
وليسرد الكاتب تاريخ المدينة، عاد إلى ماضيها منذ كانت تنقسم، قبل الاستقلال، إلى “حيّ الفيلاج” الذي يقطنه الفرنسيّون ومن يدور في فلكهم، و”دوّار الشّانطي”، الحيّ الشّعبيّ الذي يقطنه المغاربة ويشتغل جُلُّهم بضيعات المعمِّرين أو في المجال الغابويّ أو الحِرَفيّ.
وفي فصلِ سيدي يحيى قبل سنة 1912، يتحدّث المؤلِّفُ عن تاريخ منطقة سيدي يحيى الحالية، القريبة من “دار سالم”، المعلمة التاريخية التي كانت مركزا عسكريّا أنشأه السّلطان المولى إسماعيل العلوي، وأوفِد إليها بأمره سبعون ألفا من الجنود الذين كوّنوا جيش عبيد البخاري (جيش بني بمنهج عنصري من المغاربة والقاطنين بالمغرب ذوي البشرة السّوداء).
ويتساءل الكاتب هنا: “أين آثار المحلة مِن مشرع الرملة؟ خاصّة أنّ هذه الحقبة لا تتعدّى قرونا ثلاثة”، وقبل تركه جواب هذا السؤال لعلماء الآثار، يقدّم بعض عناصر الجواب قائلا إنّ الأهالي بالغوا في عمليّات الهدم وطمس المعالم، وفي بداية خمسينيات القرن الماضي، كان يقدم سكّان منطقة دار سالم ودوابُّهم محمّلة بالآجُر الأحمر الصّغير، لبيعه بسيدي يحيى، وهو ما بنيت به دكاكين الحيّ التجاريّ الأوّل بشارع البطوار.
وقد كانت سيدي يحيى في مطلع القرن الماضي مركزا سكنيا تقرّر بناؤه سنة 1919، واختُلِف في تسميته بين “سيدي امبارك”، ولي يوجد ضريحه بمدخل دوّار الشانطي اليوم، و”سيدي يحيى بنمنصور”، ولي يوجد ضريحه فوق ربوة على الضفة الغربية لواد تيفلت تُطِلُّ على المركز، وهنا يوضّح الكاتب أنّ “السند الاجتماعيّ القبَليِّ” كان حاسما في إشكال التسمية، باعتبار أنّ التْوازِيط أتباعُ محمد بن منصور، والد سيدي يحيى.
من هنا، ينتقل الكاتب إلى سيدي يحيى وقد صارت مركزا أُلبِسَ طابع القرية الأوروبية (Village)، بعدما وُفِرَت له مجموعة من التجهيزات والخدمات، مثل الماء الصالح للشّرب والبريد، فبناء أوّل مدرسة سنة 1925، ثم مستوصف طبي في مطلع الثلاثينات، وكنيسة في متمّها، لتتّخذ طابعا أكثر أهمية في أواسط الأربعينيات ديموغرافيا واقتصاديا مع تطوّر الأنشطة الفلاحية، خاصة الغابوية منها، وحضور الأمريكيين بالقاعدة العسكرية. وهو ما تلاه ترحيل الوحدات الصفيحية، ثم بناء البرج المائيّ الجديد في نهاية الخمسينيات، فافتِتاح أوّل صيدلية وبنك، وبناء معمل “السيليلوز” في سنة 1956، قبل أن يغلق أبوابه سنة 2013.
ويتطرّق كتاب “ذاكرة مدينة” للنّسيج القبلي لسيدي يحيى، مِن التّوازيط وولاد بورحمة، والعناصر الوافدة بسبب المساحات الشاسعة مِن الغابات التي تحتاج يدا عاملة، حيث يعدّد الكاتب أبرز أنساب هذه العائلات السوسية، والقادمة من الصّحراء الشّرقيّة، ومن الصحراء المغربية الغربيّة، وأحواز مرّاكش، والعائلات الهوّارية، والأخرى القادمة من نواحي الصويرة، ودكالة، والقبائل القريبة والمحيطة مِن الكاموني وتيفلت وبني تور، والدواغر، وبلعامري، وزهانا، وعامر، وغيرها.
ويعرج الكتاب على الأسر النّافذة بالمنطقة، لاستطاعتها استغلال المنتوج الغابويّ المتميّز، ثم يزيد في فصل معنون بـ”مصدر نعمة” قائلا: “تنحني ذاكرة هذه المدينة بإجلال أمام الخدمات التي قدَّمها المعمّر الفرنسي مسيو مناجي، المهندس الفلاحيّ الذي جلب بذور شجرة الأكلبتوس من أستراليا، وعمل على إقناع المسؤولين الفلاحيين بالمنطقة بفعالية هذه الشجرة في تجفيف تربة المنطقة التي كانت عبارة عن مروج ومستنقعات؛ وهو المشروع الذي أحدث ثورة اقتصادية بالمنطقة، أسهمت في ظهور العديد من الزّعامات والقيادات النافذة محليا”.
ومن بين ما يتضمّنه الكتاب حديث مفصّلٌ عن التغيرات المناخية التي عانت منها المنطقة، وأثر ذلك على الطيور والأسماك التي كانت تستوطِنُها أو تهاجر إليها، ووصف مثير للاهتمام لمظاهر الفقر والهشاشة بالمنطقة في سنوات “البون”، وندرة الأقمشة التي جعلت الناس يضعون موتاهم داخل أخصاص نبات البردي، في “حياة بئيسة” امتدّت إلى غاية الخمسينيات، لينطق محمد الحبيب لطفي بعد هذا باسم ذاكرة المدينة، معبّرا عن حسرتها مِن “ضياع مداخيل الثّروة الغابويّة الهائلة”؛ فـ”بقدر ما كانت الغابة نعمة على البعض كانت نقمة على البعض الآخر”.
وفي فصل التعليم والتمدرس، ينتصر الكاتب لثقافة الاعتراف، متذكّرا المُرَبّي جان أوستريك، الذي كان “رجلا يشرف بصدق هذه المهمّة، ويضطلع برسالتِها لكلّ أمانة وصدق، إذ كان يرعى التلميذ منذ بداية دخوله المؤسّسة إلى غاية تخرّجه منها”، وأحمد بوستة الذي كان “أول أستاذ للغة العربية إبّان فترة الحماية، واستطاع بمهارة كبيرة أن يلقّن مبادئ اللغة العربية للتّلاميذ رغم ضآلة الحيز الزمني المخصّص لها”، ثم يقفز عبر الزّمن صادحا باسم مبدعين عرفتهم المدينة (وما يزالون يقطنون بها) مثل جيلالي الطّاهر جلوفات الذي حصل على جائزة أبو القاسم الشّابّي بتونس عن مؤلَّفِه “حنظلة”.
ولم تستكن للاستعمارِ هذه المدينة التي رأت النّور بسببه، بل أسهمت ساكنتها في العمل الوطني والمقاومة، حيث يذكّر الكاتب بأوّل مجموعة وطنية نشطت في سنة 1936 بالبلدة، واعتقل منها مواطنون يعدّد أسماءهم، ولم يطلق سراحهم إلا سنة 1940.
وينتقل لطفي إلى احتفالات عيد العرش التي توالَت منذ سنة 1948، ليقف عند سنة 1952 التي شكّلت “تحوّلا مهمّا” عندما رفعت السّاكنة شعارات مندّدة بالاستعمار ومناهِضة له، لتعمّ المظاهرات سيدي يحيى بعد أيّام قليلة عقب اغتيال النقابي التونسي فرحات حشاد، أيّام 6 و7 و8 دجنبر، ممّا أدى إلى اعتقال 42 وطنيا بالمدينة وضاحيتها، والحكم عليهم بأحكام متعدّدة؛ من بينها النّفي.
كما يذكّر الكاتب بخلية المقاومة المكوّنة من أبناء المدينة والمنطقة، ويفصّل في نشاطها الممتدّ من سنة 1953 إلى سنة الاستقلال 1956، واستلامها السلاح من جرف الملح وسيدي قاسم، لإيصاله إلى الدار البيضاء، هي الخلية التي حصل أعضاؤها على بطاقة المقاومين بعد الاستقلال..
ومن الطرائف التي يذكّر بها الكتاب ما وقع بعد نفي السلطان محمد الخامس، وبعض الشباب المغاربة مرغمٌ على المشاركة إلى جانب فرنسا ضدّ فيتنام، بعد حركة التّجنيد سنة 1952، حيث انفصلت مجموعة منهم عن الجيش الفرنسي والتحقت بالجيش الفيتناميّ، ثم مكثت بفيتنام بعد هزيمة فرنسا وكوّنت أسرا، إلى أن أعاد الملك الحسن الثاني مجموعة منها إلى أرض الوطن هي وذويها، فالتحق بعضها بمنطقة الغرب، بعدما استفادوا من قطع أرضيّة فلاحية بدوار الصفاري في ضاحية سيدي يحيى.
ويؤرّخ الكتاب أيضا لزيارة مجموعة من “الشخصيات الوازنة” إلى سيدي يحيى، من قبيل: المهدي بنبركة، وعلال الفاسي، وابن المنطقة عبد الواحد الراضي، وبنسعيد آيت يدر، وعبد الرحمن اليوسفي، ونوبير الأموي. كما يخلّد هذا المؤلَّف أسماء شخصيات نحتت أسماءها في ذاكرة المدينة، في ميادين التعليم والصحة والبريد والفقه، مثل المعلّمين أحمد العبدي بوستة، وعبد السلام الطاهيري، وجان أوستربك، وأحمد الفرخاني، والفقهاء البلخيري، وحميد لطفي، والسّي الطازروتي.
كما يتضمّن كتاب “سيدي يحيى الغرب، ذاكرة مدينة” معلومات غنية عن الحياة الرياضية والثقافية والحزبية والنقابية بالمدينة، وأبرز أعلامها، وذاكرة المدينة الدينية والتّصوّفيّة، وما انقرض من طقوس التّحيار وتهشيم القدور ووخز الأجسام بالسكاكين إلى أن تسيل الدماء، وكنيسة المدينة التي أزيحت عن مكانها بعدما عهد الناس سماع نواقيسها كلّ يوم أحد، وسينما “كوبا كابانا” التي لعبت دورا في الرفع من مستوى الوعي الثّقافيّ لدى العديد من روّادِها المغاربة، حتى غادر صاحبها أرض الوطن فصارت “مرتعا للجرذان والحشرات”.
المصدر: هسبريس المغربية