انطلاقا من الخبر الذي أشار، بداية دجنبر المنصرم، إلى أن “المغرب عاد من جديد إلى السوق المالية الدولية لإصدار سندات بقيمة ثلاثة ملايير دولار أمريكي”؛ تطرق إبراهيم منصوري، أستاذ العلوم الاقتصادية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، إلى موضوع الاستدانة بالتفصيل، بدءًا بالمبحث الأول الذي يشير إلى ضرورة الاستدانة في سياق الأزمة الثلاثية “المناخية-الصحية-الاقتصادية”، وتوضيح أهمية استدامة الدين العام.
وأشار الأستاذ الجامعي، في المبحث الثاني ضمن مقال له، إلى أن ضرورة الاستدانة لا تعني أنّ المسؤولين المغاربة غير ملزمين بالمحافظة على استدامة الدين العمومي وعجوزات القطاع العام، إن أرادوا فعلا أن يتجنبوا برنامج تقويم هيكلي جديد بكل تداعياته على الاقتصاد والمجتمع، فيما ربط في المبحث الثالث “المديونية العمومية للمغرب” بما يسمى في الأدبيات الاقتصادية بمفعول “كرة الثلج للدّيْن العام”.
وفي المبحث الرابع، أوضح إبراهيم منصوري أن “المديونية العمومية للمغرب لا تنحصر في الدين العام الخارجي بالعملات الأجنبية القوية، بل تتعدى ذلك إلى إشكالية الدّيْن العام الداخلي بكل تبعاته على الاقتصاد والمجتمع، مع التركيز على أن للدَّيْن العام الداخلي مفعول إزاحة على القطاع الخاص”، قبل أن يوضح في المبحث الخامس أن “استفحال المديونية العامة الداخلية ينتج عنه ما يسمى بظاهرة “الأريتميتيقا النقدوية البغيضة””.
وبعدما أكّد منصوري في المبحث السادس أنّ مغالاة البنك المركزي في تقييد خلق النقود من أجل الحفاظ على استقرار المستوى العام للأسعار قد يحدُّ من دينامية النشاط الاقتصادي، وبالتالي فمن شأنه أن يؤدي إلى معدلات نمو اقتصادي ضعيفة، استعرض أستاذ العلوم الاقتصادية، في المبحث السابع، “أهم اقتراحات السياسة الاقتصادية التي يمكن استخلاصها من المقال، مع خواتم عامّة واستشراف البحوث المستقبلية في هذا المضمار، خاصة في إطار أوراق بحثية محكمة”.
فيما يلي نص المقال:
يقول خبر عاجل ليوم الثلاثاء 08 دجنبر 2020 إن المغرب عاد من جديد إلى السوق المالية الدولية لإصدار سندات بقيمة ثلاثة ملايير دولار أمريكي.
تّذكّر هذه المقالة في مبحثها الأول بهذا الخبر مع تمحيصه والإشارة إلى ضرورة الاستدانة في سياق أزمتنا الثلاثية المناخية-الصحية-الاقتصادية، مع الحرص على توضيح أهمية استدامة الدين العام.
أما المبحث الثاني لمقالتنا فيركز على ضرورة الاستدانة لا يعني أنّ المسؤولين المغاربة غير ملزمين بالمحافظة على استدامة الدين العمومي وعجوزات القطاع العام، إن أرادواْ فعلاً أن يتجنبواْ برنامج تقويم هيكلي جديد بكل تداعياته على الاقتصاد والمجتمع.
أما في المبحث الثالث للمقالة، فقد ارتأينا فيه إلى ربط المديونية العمومية للمغرب بما يسمى في الأدبيات الاقتصادية بمفعول كرة الثلج للدّيْن العام (Effet-boule de neige de la dette publique : Snowball-Effect of Public Debt)، مع تفسير مبسط لهذه الظاهرة وتوضيح آثارها على الاقتصاد الوطني وسيادة الدولة.
وفي المبحث الرابع، توضح مقالتنا أن المديونية العمومية للمغرب لا تنحصر في الدين العام الخارجي بالعملات الأجنبية القوية، بل تتعدى ذلك إلى إشكالية الدّيْن العام الداخلي بكل تبعاته على الاقتصاد والمجتمع، مع التركيز على أن للدَّيْن العام الداخلي مفعول إزاحة (Effet d’éviction : Crowding-out Effect) على القطاع الخاص.
أمّا المبحث الخامس من المقالة، فإنّه يوضِّح أن استفحال المديونية العامة الداخلية ينتج عنه ما يسمى بظاهرة “الأريتميتيقا النقدوية البغيضة” (Arithmétique monétariste déplaisante : Unpleasant Monetarist Arithmetic) المرتبطة بسلوك البنك المركزي وتنقيد العجوزات المالية (Monétisation des déficits budgétaires : Monetization of fiscal deficits)، مع التحذير من هذه الظاهرة ذات الآثار التضخمية.
ويستدرك المبحث السادس لهذه المقالة أنّ مغالاة البنك المركزي في تقييد خلق النقود من أجل الحفاظ على استقرار المستوى العام للأسعار قد يحدُّ من دينامية النشاط الاقتصادي، وبالتالي فمن شأنه أن يؤدي إلى معدلات نمو اقتصادي ضعيفة.
وأخيراً، يستعرض المبحث السابع أهم اقتراحات السياسة الاقتصادية التي يمكن استخلاصها من مقالتنا، مع خواتم عامّة واستشراف البحوث المستقبلية في هذا المضمار، خاصة في إطار أوراق بحثية محكمة تتعدى بساطة الأفكار المطروحة في المقالة الحالية.
عن إصدار المغرب لسندات جديدة في السوق المالية الدولية:
من المعروف أن المغرب قد أصدر يوم 8 ديسمبر 2020، سندات (Obligations) جديدة في السوق المالية الدولية، بقيمة إجمالية تقدر بثلاثة ملايير دولار أمريكي، أي ما يناهز 27 مليار درهم مغربي.
لقد اضطرت الدولة المغربية إلى هذا الاقتراض الجديد بالعملة الصعبة نظراً إلى الصعوبات الكبيرة التي تعانيها المالية العامة للمملكة في خضم أزمة ثلاثية مناخية-وبائية-اقتصادية اتسمت بانهيار الموارد الجبائية للدولة وشُحّ العائدات من العملات الأجنبية القوية بفعل توقف شبه كلّي للسياحة وانخفاض الصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة وتحويلات المغاربة القاطنين في الخارج.
عرف إصدار السندات الجدية حسب السيد محمد بن شعبون، وزير الاقتصاد والمالية، نجاحا باهرا، مما يوضح الثقة الكبيرة التي ما زال المستثمرون الماليون الأجانب يولونها للمغرب ولاستقرار اقتصاده ولصلابة أسُسه الماكرو-اقتصادية (Fondamentaux macroéconomiques : Macroeconomic Fundamentals).
للتذكير، يتضمن القرض السنداتي (Emprunt obligataire : Bond Loan) ثلاث شرائح أساسية:
قرض بقيمة 750 مليون دولار أمريكي على مدى سبع سنوات، بمعدل مردودية (Taux de rendement : Rate of Return) يناهز 2,412%؛
قرض بقيمة 1 مليار دولار أمريكي، سيتم أداؤه على 12 سنة، وبمعدل مردودية يقارب 3,043%؛
شريحة سنداتية (Tranche obligataire : Bond Tranche) بقيمة 1,25 مليار دولار أمريكي، على فترة زمنية تقدر بثلاثين عاماً، وبمعدل مردودية يناهز 4%.
لا شك أن هذه العودة الجديدة للمغرب إلى السوق المالية الدولية تعتبر ضرورية في خضم الأزمة الصجية-الاقتصادية المزدوجة، إلا أن صناع القرار مدعوون إلى مزيد من الحذر للحفاظ على استدامة الدين العام.
ضرورة القرض الجديد وأهمية استدامة الدين العام: حذار من برنامج تقويم هيكلي جديد
لا شك أن الظروف الحالية التي يمر منها الاقتصاد الوطني تحتم اللجوء إلى الاقتراض خارجيا وداخليا، خاصة بفعل الجفاف والأزمة الوبائية الناجمة عن استفحال فيروس كورونا المستجدّ. إلا أن تفاقم الاستدانة العمومية من شأنه أن يضاعف مخاطر فرض برنامج تقويم هيكلي ( Programme d’ajustement structurel : Structural Adjustment Programl) جديد على المغرب، بعد ذلك الذي فرضته مؤسسات التمويل الدولية على البلاد والعباد في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
لا يتناطح عنزان على أن أي برنامج تقويم هيكلي مفروض من الخارج ستكون له تداعيات اقتصادية واجتماعية قاسية، خاصةَ عندما ترتفع نسبة جاري الدين العام (Encours de la dette publique) إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات قياسية، وتصبح الدولة عاجزة عن أداء ما بذمتها للدائنين، مما يفرض عليها طلب إعادة جدولة ديونها ( Rééchelonnement de la dette : Debt Rescheduling)، تحت شروط صارمة وقاسية، من قبيل انصياع الدولة إلى مزيد من التقشف الموازناتي (Austérité budgétaire : Fiscal Austerity) الذي سيؤثر سلبا على الإنفاق العام، خاصة على نفقات الاستثمار العام وتمويل القطاعات الاجتماعية من تعليم وصحّة وتشغيل.
وبالفعل، يلاحظ الدارون بالمالية العامة واستدانة القطاع العام في المغرب أن مخزون الدين العمومي عرف في السنين الأخيرة ارتفاعاً هامّاً، بحيث أنه قد يصل حسب توقعاتنا إلى ما يفوق 92% من الناتج المحلي الإجمالي في نهاية السنة الجبائية 2020.
أما في حالة ما إذا واصل صنّع القرار الاستدانة داخليا وخارجيا في السنة الجبائية القادمة، فإن قيمة المديونية العامة للبلاد قد تتخطى حاجز 100% من الدخل القومي للبلاد، مما سيحثّ الدائنين على سدّ “الصنابير المالية” وفرض برنامج تقويم هيكلي جديد قد يكون أقسى من مثيله المُمْلى علينا سنة 1982/1983، بكل تداعياته الاقتصادية والاجتماعية وآثاره الوخيمة على الاقتصاد والمجتمع والوضع السياسي والتماسك الاجتماعي، بالإضافة طبعا إلى آثاره السلبية على سيادة الدولة نفسها.
مفعول كرة الثلج للدين العمومي في المغرب: أية آفاق؟
لا شك أن تفاقم استدانة القطاع العام في المغرب سيثقل كاهل الأجيال القادمة لأنها ستحرم من موارد مالية مهمة كانت ستستغل في إنجاز مشاريع اقتصادية واجتماعية مُدِرّة للشغل والدخل لولا توجيهها إلى خدمة الدين العام، ولأنها ستضطر إلى تحمل عبء ضريبي أكبر لتخفيف الضغط المالي المفروض على الموازنة العمومية التي ستعاني من عجوزات مالية خانقة. كما أنّ هامش المناورة لدى الدولة سيضعف كثيرا بفعل الضغوطات المفروضة عليها من طرف الدائنين، مما سيؤدي إلى تآكل درجة سيادتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعياً.
وبالترابط مع الخسارة المتتالية لاستدامة الدين العام (Soutenabilité de la dette publique : Public Debt Sustainability)، دعونا نستحضر أدناه ما يسمى في الأدبيات الاقتصادية بمفعول كرة الثلج للدين العمومي (Effet-boule de neige de la dette publique : Snowball-Effect of Public Debt).
بفعل عدم قدرة الدولة المغربية على توليد أرصدة موازناتية أولية موجبة (Soldes budgétaires primaires positifs : Positive Primary Fiscal Surpluses)، فإنها ستصبح غير قادرة على أداء ما بذمتها من قروض سالفة على المستوييْن الداخلي والخارجي. ونظراً لهذا العجز عن الوفاء بالتزاماتها، فإن الدولة ستضطر، إن قبل دائنوها بذلك، إلى مزيد من الاقتراض، مما سيضخِّم كتلة الدين العام على طريقة كرة ثلج كبيرة سرعان ما يزداد سمكها كلما زادت تدحرجا على مر الزمن، مؤدية بذلك إلى زيادة سريعة في خدمة الدين رأسمالاً وفوائد، مع نزوع متوسط معدّل الفائدة (Taux d’intérêt moyen : Average Interest Rate) إلى الارتفاع، وبالتالي عجز الدولة عن خدمة الدّيْن ودخول الاقتصاد والمجتمع في فوضى عارمة، مع مزيد من تآكل سيادة الدولة وخضوعها لشروط الدائنين وضغوط اجتماعية وسياسية لا تحمد عقباها.
وماذا عن الدّيْن العام الداخلي؟: مفعول إزاحة القطاع الخاصّ
قد يغفل عامة الناس خطورة الشق الداخلي من المديونية العمومية، معتقدين أن الخطورة لا تتعدى الدّيْن الخارجي بالعملات الأجنبية القوية. إلا أن عين العقل مفاهيمياً وقياسياً تستدعي استحضار إشكالية الدين العمومي الداخلي بكل تداعياتها على الاقتصاد والمجتمع والبرهنة على أن مخاطر الاستدانة الداخلية قد تضاهي مخاطر الاستدانة الخارجية، بل ربما قد تكون أكثر تدميراً اقتصادياً واجتماعيا وسياسياً، خاصة أن جاري الدين العام الداخلي (Encours de la dette publique intérieure : Outstanding Domestic Public Debt) في المغرب يقترب حالياً من 70% من الناتج المحلي الإجمالي.
وبالفعل فإن تراكم واستعصاء مخزون الدّيْن العام الداخلي قد يؤديا على المدييْن المتوسط والطويل إلى مزيد من إزاحة القطاع الخاصّ (Eviction du secteur privé : Private Sector Crowding-out)، أي حرمان القطاع الخاصّ من موارد مالية كانت ستساهم في نموه المضطرد لولا استيلاء القطاع العام على حصة كبيرة منها عن طريق الاستدانة العمومية.
قد يقول قائلٌ إن إن مفعول إزاحة القطاع الخاصّ من طرف القطاع العام عن طريق الاستدانة الداخلية ضعيف إلى حدِّ ما لأن حصة الأبناك في الدين العمومي الداخلي لا تتعدى 22% من مجموع الديون المستحقة على الدولة، إلا أنه بالإضافة إلى أن هذه الحصة لا يستهان بها، فإن استغلال القطاع العام لادخارات نُظم التقاعد الأساسية المتمثلة في الصندوق المغربي للتقاعد والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والنظام الجماعي لتعويضات التقاعد والصندوق الوطني للتقاعد والتأمينات لمن شأنه بحدّ ذاته أن يعمق إزاحة القطاع الخاص وعرقلة تطوره كقاطرة للتشغيل والاستثمار والإنتاج والنمو الاقتصادي على المدى الطويل، ما دام من حق القطاع الخاص” أن يستفيد من تلك الادخارات على شكل سلفات، بالتعادل مع القطاع العام على الأقلّ.
الدين العام الداخلي والأريتميتيقا النقدوية البغيضة في المغرب
تعني الأريتميتيقا النقدوية البغيضة (Arithmétique monétariste déplaisante : Unpleasant Monetarist Arithmetic) أن السلوك المحافظ للبنك المركزي (بنك المغرب) المتمثل في استهداف محاربة التضخم (Inflation) على حساب النمو الاقتصادي قد يدفع صناع القرار إلى صياغة وتنفيذ سياسة مالية توسُّعية (Politique budgétaire expansionniste : Expansionary Fiscal Policy)، مما ينجم عنه ارتفاع في عجوزات القطاع العام (Déficits du secteur public : Public Sector Deficits) الرامية إلى إنعاش النشاط الاقتصادي.
ونتيجة لهذا السلوك الموازناتي التوسعي، ونظراً لعجز الدولة عن خدمة الدّيْن المتراكِم عن طريق مواردها المالية الذاتية، فإن بنك المغرب قد يُجبَر آجِلاً على قبول تنقيد الدين العمومي (Monétisation de la dette publique : Public Debt Monetization)، ممّا قد يعجِّل مستقبلاً بضغوط تضخمية (Tensions inflationnistes : Inflationary Pressures) بكل تداعياتها على الاقتصاد والمجتمع.
هذا هو مجمل المفهوم الشهير باسم “الأريتميتيقا النقدوية البغيضة” والذي طوره الاقتصاديان الأمريكيان Sargent و Wallace: كل سلوك محافظ من طرف البنك المركزي بهدف مكافحة التضخم عن طريق تبني سياسة نقدية انكماشية (Politique monétaire restrictive : Restrictive Monetary Policy) لن يتّسِم بالمصداقية (Crédibilité : Credibility) إلّا إذا كان صناع القرار يسهرون على الحفاظ على استدامة السياسة المالية (Soutenabilité de la politique budgétaire : Sustainability of Fiscal Policy) على المدى الطويل، علاوة على التزام البنك المركزي بمقاومة إغراءات التمويل النقدي (Financement monétaire : Monetary Financing) للاختلالات الموازناتية للدولة بمعناها الواسع، أي الحكومة المركزية والجماعات المحلية والشركات العمومية.
يعرف الجميع اليومَ ان بنك المغرب ما زال متمسكاً إلى حدِّ بعيد بسلوكه المحافظ، بمعنى أنه يواصل التحكم في خلق النقود تجنباً للضغوط التضخمية، إلا أن تراكم مخزون الدين العمومي في الآتي من الأعوام قد يدفع بصنّاع القرار إلى فرض تنقيد عجوزات القطاع العامّ (Monétisation des déficits du secteur public : Monetization of Public Sector Deficits)، مما قد ينجم عنه ارتفاع في المستوى العام للأسعار على المدى الطويل، وبالتالي خلق بيئة مواتية لاستفحال التضخم الذي ما زال إلى حدّ الآن متحكّماً في ويضاهي مثيله عند أهم شركاء المغرب التجاريين، خاصّةً في أوربا.
نَعمْ لسياسة نقدية مضادة للتضخم ولكن مع عدم التشديد في خلق النقود
نرى أنه من الأجدى بالنسبة لبنك المغرب ألّا يطبق حرفياً القاعدة الفريدمانية للنمو المنتظم للكتلة النقدية (Règle friedmanienne de la croissance régulière de la masse monétaire : The Friedmanian Rule of Money Supply Steady-State Growth)، أي القاعدة التي تذهب إلى أن الكتلة النقدية الإسمية (Masse monétaire nominale : Nominal Money Supply) يجب أن تتبع وتيرة تغيُّر الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية (PIB aux prix courants : GDP at current prices)، بمعنى أن معدل ارتفاع الكتلة النقدية يجب أن يلامس مجموع معدليْ التصخم والنمو الاقتصادي من سنة إلى أخرى.
إن إصرار بنك المغرب على التطبيق الحرفي لقاعدة مِلتُون فريدمان، خاصة في زمن الأزمة، لمن شأنه أن يؤدي إلى قيود قاسية على تمويل الاقتصاد الوطني، مما قد يدفع بصناع القرار مستقبلا إلى سنّ سياسة مالية أكثر توسعاً، مع توليد عجوزات مالية أقل استدامة مما عليها في الوقت الراهن.
صحيح أن انحرافاً معيناً عن القاعدة الفريدمانية للنمو المنتظم للكتلة النقدية قد يضر باحتياطيات الصرف الأجنبية لدى المغرب كبلد تحوي وارداته من الخارج حصة لا يستهان بها من الواردات غير القابلة للتقليص (Importations incompressibles : Incompressible Imports)، من أمثال واردات الطاقة والسلع الاستثمارية وبعض الموادّ الغذائية، إلّا أن الغلو في تطبيق القاعدة النقدية الفريدمانية سيشبه إلى حدٍّ ما السعي إلى تقليص كمية الدم المتداولة داخل جسم الاقتصاد الوطني، مع العلم أننا أشرنا إلى الدّم هنا قياسا مع كمية النقود المتداولة داخل النظام الاقتصادي ككلّ.
مقترحات سياسة وخواتم
لا شك أن المغرب في خضم الأزمة الوبائية-الاقتصادية المزدوجة الراهنة، وكغيره من أقطار العالم، مجبر على الاستدانة داخليا وخارجيا، وهذا ما يفسر لجوء صناع القرار من جديد إلى إصدار سندات جديدة في السوق المالية الدولية. إلا أن عين العقل تحتم إصرار الدولة على الحفاظ على استدامة الدين العام لتجنب الوقوع من جديد في فخ برامج التقويم الهيكلي بكل تداعياتها على الاقتصاد والمجتمع.
إن إصرار الدولة على الغلو في الاقتراض من الخارج ينم عن عدم قدرة الاقتصاد الوطني على المساهمة في تراكم الاحتياطيات من العملات الأجنبية القوية في ما مضى من الزمان قبل بداية الأزمة الصحية-الاقتصادية المزدوجة، ورغم الجهود المبذولة حتى الآن في سبيل تنويع الاقتصاد الوطني وتقوية العرض القابل للتصدير (Offre exportable : Exportable Supply) كمّاً وكيفاً.
إن الأزمة الوبائية-الصحية المزدوجة التي عصفت بالاقتصاد الوطني على حين غرّة يجب أن تحث صناع القرار على المضي قدما في سبيل تعميق تنويع الاقتصاد وتعزيز المكتسبات في ميداني تصدير السلع والخدمات والسياحة وكل الأنشطة الاقتصادية المُدِرّة للعملة الصعبة، دون نسيان مزيد من الاعتماد على السوق الداخلية بعيداً عن الصدمات الخارجية التي يصعب التحكم فيها، إن لم نقل إنه من المستحيل ضبطها.
إن لمفعول كرة الثلج للدّيْن العامّ خطورة كبيرة على الاقتصاد والمجتمع، إذ أن عجز الدولة عن خدمة ديونها سيدفع بها لا محالة إلى مزيد من الاستدانة لأداء ما بذمتها، وفي نفس الوقت استغلال الديون الجديدة لتمويل الإنفاق العام بشقّيْه الاستهلاكي الجاري والاستثماري، بحيث أن تراكم الديْن العام سيشبه في آخر الأمر كرة ثلج كبيرة يزيد سمكها كلما تدحرجت على مر الزمن. ومن هذا المنطلق، لا غرْوَ أن الدولة ملزمة بالحفاظ على استدامة الدين العمومي، مع العمل على تنويع مصادر العملة الصعبة وإصلاح المنظومة الضريبية التي تساهم سلبياتها الحالية في الحيلولة دون اقتراب موارد الدولة الجبائية من درجتها المثلى المنشودة (Optimum désiré : Desired Optimum).
بالإضافة إلى الدّيْن العام الخارجي، أولينا في هذه المقالة أهمية كبيرة للدين العام الداخلي، وبيننا ما له من مفعول إزاحة على القطاع الخاصّ كمُدِرّ للشغل والدخل ومحرك ديناميكي للنمو الاقتصادي على المدى الطويل. وفي هذا الإطار، يستوجب على الدولة الاعتماد أكثر على مواردها الذاتية من ضرائب ومُكُوس وغيرها، مع التشديد على أهمية مكافحة الغش والتهرب الضريبييْن؛ ومن هنا تتبين أهمية الإصلاح الضريبي وإرساء العدالة الجبائية كعامليْن قادريْن على تعزيز الموارد المالية للدولة، ومن ثمة التقليص من الاعتماد على القروض داخلياً وخارجياً.
ركزنا في مقالتنا أيضاً على العلاقة الأساسية بين تراكم الديْن العام الداخلي وظاهرة “الأريتميتيقا النقدوية البغيضة” المعروفة في أدبيات الاقتصاد السياسي. وفي هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن مغالاة بنك المغرب في تبني سلوك محافظ في سبيل التحكم في التضخم على حساب النمو الاقتصادي لمن شأنها أن تدفع بصناع القرار في مضمار السياسة المالية إلى مزيد من الاستدانة بغية إنعاش النشاط الاقتصادي. إلا أن المغالاة في الاستدانة قد يحث الدولة مستقبلاً على فرض تنقيد العجوزات المالية على البنك المركزي، مما قد يدفع معدلات التضخم إلى ارتفاع مهول قد يعصف بالبلاد والعباد. ومن هنا تتبين أهمية مرونة بنك المغرب في ما يخص خلق النقود، كما ضرورة توخي الحذر في ما يتعلق بالاستدانة.
إن مغالاة بنك المغرب في تقييد خلق النقود عبر امتثاله إلى القاعدة الفريدمانية التي تنصح بجعل الكتلة النقدية تتغير بالاحتكام إلى معدل تغير الناتج المحلي الإجمالي الإسمي، بدعوى الحفاظ على استقرار الأسعار، لمن شأنها أن تعرقل التمويل الكافي للاقتصاد الوطني، وبالتالي فإن بنك المغرب مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مزيد من المرونة في سياسته النقدية، خاصة أن مستوى معدل التضخم في المغرب ما زال معقولاً، خاصة إذا ما قورن بمثيله في بلدان أخرى ذات مستوى تنموي مشابه لمثيله في المغرب.
تبقى الإشارة أخيراً إلى أن القارئات والقرّاء الكرام يجب أن يعرفواْ أن مقالتنا هذه لا يجب اعتبارها ورقة بحثية محكمة. إلا أن الأفكار التي وردت فيها قد تصلح لورقة بحثية مستفيضة مع توسيع وتوطيد إطاريْها المفاهيمي والإمبريقي؛ وسنعمل مستقبلاً في نفس الإطار، إن شاء الله، على تحضير ورقة بحثية أكثر عِلميةً وقابلة للنشر في مجلة متخصصة.
المصدر: هسبريس