أخبار
قراءة في أوضاع الدول المغاربية (1)
كانت أمتنا في العقود السابقة محط اهتمام لدى كثير من الدوائر والمخابر الغربية، وهي اليوم في مرحلة استهداف وتنفيذ مخططات المخابر وذلك عبر كل ساحات الأمة، وفي مستويات يمكن أن تغّير كل منظوماتها الأمنية والسياسية والثقافية والاجتماعية، سواء في المشرق أو المغرب، فضلا عن سياسة ممنهجة لتدميرها.
وقد شمل الاستهداف أيضا تدمير علاقة الأمة ورابطها سواء في إفريقيا أو آسيا، وتم فصل أجنحة الأمة وجغرافياتها بأدوات عنيفة، وعلى مستويات: داخلية، إقليمية، ومن أطراف متعددة بعضها إيديولوجي عقائدي، وبعضها سياسي، وبعضها اقتصادي، وأحيانا حرص الاستهداف على جعل بعض أطياف الأمة أن تستعمل كأداة من أدوات التدمير والتوتير سواء في ساحاتها الوطنية أو عموم جغرافيا أمتنا العربية وكذا الإسلامية.
من جهة أخرى لا يخفى على المراقب أن بعضا من ساحاتنا ظلت إلى فترة قريبة مستقرةً، ولكنها اليوم بدأت تتجه نحو التوتير والاحتراب، ومنطقة المغرب العربي تمثل أنموذجا لذلك، حيث لا تزال منطقة شمال أفريقيا عموما والدول المغاربية خصوصا من المناطق الاستراتيجية في العالم بسبب:
- البعد التاريخي والحضاري.
- الموقع الاستراتيجي والجيوسياسي.
- التحولات الاقتصادية.
- التطورات الأمنية في المحيط الإقليمي.
- صحراء المنطقة الغنية بمختلف الثروات الأحفورية إلى جانب الطاقات المتجددة ومخزون المياه الجوفية واليورانيوم والذهب وغيرها من الثروات ومن المعادن.
- البحر الأبيض المتوسط بأبعاده الاقتصادية المتعددة والربط الاستراتيجي بدول العالم المتحضر أي بين الجنوب والشمال في المتوسطومن هنا أصبحت هذه المنطقة مسرحا لتجاذب السياسات الدولية، والصراعات على النفوذ الاقتصادي وأحيانا صارت ساحات لصراع المحاور المختلفة بعيدا عن جغرافيا المحاور المتصارعة وكل ذلك انعكس باستمرار على الاستقرار والأمن في دول المنطقة.
أهمية تقدير الموقف بهذه المنطقة المغاربية:
لقد هبت رياح الربيع العربي على جزء مهم من المنطقة المغاربية، وذلك بشكل مباشر على (ليبيا، تونس)، وبشكل غير مباشر على بقية الأقطار (الجزائر، المغرب…)، بحيث تجاوزت المغرب مشكلة الربيع العربي بحكومة إسلاميين، ومررت من خلالها مشروع التطبيع الذي لا تزال ظلاله فوق تونس وليبيا، وتجاوزت الجزائر أخطار الربيع العربي بشراء السلم الأهلي نظرا للبحبوحة المالية التي تتوفر لدى الحكومة ثم عبر حراك شعبي أسس لحالة جديدة تؤكد لعلاقة وطيدة بين الشعب وجيشه، ولا تزال تقاوم التطبيع في بيئة عربية مهرولة للتطبيع وضاغطة على عموم محور الممانعة…
وبخصوص الحديث عن إسلاميي المغرب من المفيد هنا التذكير بأن الحالة الإسلامية بالمنطقة المغاربية عرفت تقدما على مستوى المشاركة السياسية السلمية في السلطة والحضور في المجتمع خلال العقد الماضي، وبالنسبة للجزائر من منتصف التسعينيات نتيجة العافية وعدم التصادم والشراكة الوطنية بين كل مشارب المجتمع الذي أسس له الشيخ نحناح رحمه الله، ولكنها بدأت تتراجع إلى النقيض مع بداية العقد الحالي، ويعود ذلك لعدة عوامل، كما أن الانقسامات التنظيمية تزامنت مع حالة التراجع، وانعكس ذلك على تأثيرها، كما أن ارتهان أغلبيتها لمحاور خارجية جردها من وظيفتها، كما سلبها استقلالية قرارها، واستخدمت في بعض الأحيان كأداة لتدمير الدولة الوطنية.
كما مسَّ الحالة الإسلامية المغاربية بعض سلبية الأقطار التي تعاملت مع السلاح والاحتراب (مثل ليبيا)، أو التي انخرطت في مشاريع دولية، أو كالتي تخلت عن حمايتها (مثل تونس) أو مثيلاتها في الجزائر.
وشكلت سابقا البيئة المستقرة في المنطقة عاملا مساعدا لنمو للحالة الإسلامية، لكنها اليوم تحولت إلى بيئة طاردة لها أو حذرة منها في غالبيتها، كما في أغلب تيارات المجتمع الأخرى.
ولا شك أن هذا التطور يفرض عليها وعلى جميع النخب في المغرب العربي إعادة تقدير الموقف، ومراجعة المسارات المستقبلية ضمن الرؤية الكبرى لأهداف المشروع وحماية الأوطان وحالة التحولات الحاصلة عليه عندها ومن حولها في الإقليم، وكذا التحولات الدولية والتغيير في موازين القوة.
توصيف الوضع الحالي بالمنطقة
أولا- ديمومة التوترات وعنفها:
رغم أن المنطقة شهدت استقرارا سياسيا فإنها منذ أكثر من ثلاثين سنة رافقت تحولاتها بعض مشاهد الفساد والعنف والسلاح والإرهاب. وقد عمّقت الحالة مظاهر أخرى من مظاهر الأزمة متعددة الأبعاد في معظم دول المنطقة سواء ما تعلق بــ:
- الشرعية الانتخابية والحكم الوراثي (الملكي / الثوري) وحالة الاستبداد.
- أو التدخل الخارجي.
- أو المصالحات البينية.
- أو التوترات المختلفة من دولة لأخرى.
وإذا كانت الاختلافات الداخلية قد أثرت على استقرار المنطقة سياسيا منذ بداية مرحلة التعددية السياسية؛ فإنها أيضا صاحبها تهديد مستمر للوحدة المجتمعية، وللسيادة الوطنية بفعل تدخل أجندات خارجية استثمرت في الاختلافات الأيديولوجية والتصدعات المجتمعية، وتسعى جاهدة لتفكيك الجبهة الداخلية وتمزيق النسيج المجتمعي.
كما أن بعض الاضطرابات تطورت منذ انطلاق زلزال الربيع العربي وهزاته الارتدادية التي استمرت عقدا كاملا في دول المنطقة؛ لأنها تتقاسم نفس العلل والأسباب الكامنة وراء ديمومة القلق الاجتماعي ومخرجاته حتى وإن اختلفت الأسماء والشعارات من جغرافيا إلى أخرى.
ولم تكن دائما تلك الاضطرابات السياسية ناجمة عن الصراع بين السلط والشعوب؛ بل إن الصراع داخل أجنحة السلطة ذاتها أو بين نخبها المرتهنة لمحاور خارجية أدى الى استمرار التوترات في هذه الدول؛ ما وضعها دائما في فوهة بركان أو على صفيح ساخن من قلة الثقة والطمأنينة السياسية والالتزام الاستراتيجي بالديموقراطية ومقتضياتها، وحقوق الإنسان والحريات والمواطنة الحقة، التي تشمل حصن السيادة الأول والأهم.
ثانيا- الحرب الاقتصادية المتجددة:
عادت العوامل الاقتصادية التي كانت مصاحبة للاستعمار التقليدي عدة مرات لتكون من أحد أهم أسباب الصراع في/على المنطقة.
كما أنّ محاولة قطع الطريق على التحول الاقتصادي المبني على تنوع العلاقات الاقتصادية والتجارية وتعددها ظلت هي الأخرى سببا مباشرا لصناعة التوترات، حيث شهدت الأعوام الأخيرة انفتاحا اقتصاديا في المنطقة على الصين بدرجة كبيرة[1]، وعلى تركيا وعموما على أسواق غير تقليدية، وبشكل مغاير لحالة الهيمنة الأوربية والغربية عموما، مما جعل الحروب والإرهاب والتوترات وسلاح حقوق الإنسان وغيرها وأغلب ذلك بسبب التنويع التجاري والاقتصادي كلها، سلاحا مهددا باستمرار لهذا الانفتاح والتحول في ظل حرب المشاريع الاقتصادية العالمية والتنافس على المنطقة، وسعيها في كسب مناطق نفوذ جديدة ومجالات حيوية جديدة لتلك المشاريع ومصالح الدول.
إن الاستراتيجيات التنموية القائمة في هذه البلدان على رؤية التنويع الاقتصادي والانفكاك من اقتصاد الريع (الغاز والنفط في الجزائر وليبيا، المعادن في موريتانيا، الفلاحة في المغرب) تتم إعاقتها دوما لأسباب ذاتية ومعوقات داخلية، متمثلة في الفساد، والترهل الإداري، ولكنها تعاق بدرجة أخرى من طرف قوى خارجية تسعى لإعادة إنتاج النظام العالمي القائم على اقتصاد جنوب يصدر مواد أولية/ وشمال يوسع أسواق استهلاكية.
ذلك لأن توتر جنوب المتوسط سيعرقل حتما حركة الصادرات المنافسة نحو أفريقيا الشمالية، واضطراب دول الساحل والصحراء منعت هذه الاقتصاديات من الأسواق الآمنة.
ومن هنا يتراجع اقتصاد السلام والتنمية في المنطقة لصالح اقتصاد الحرب وتجارة التسلح والتسابق نحو التسلح، واختراق السيادة والضغط على الأنظمة باستعمال ورقة حقوق الإنسان، تحت مبررات موضوعية للبعض، وعند البعض الآخر ليس لها أي مبرر لكنها في الأخير لا تخدم أحدا من مكونات المنطقة من حيث التنمية، وتنقُّل الأشخاص والبضائع، وهدف الاندماج الاقتصادي، وإنما تصب في مصلحة الكبار وتنفيذ استراتيجياتهم ولا تخدم المواطن في هذه الدول.
ثالثا- التـــــرهل الأخلاقي:
لقد أدى هذا الوضع إلى تصدعات اجتماعية وانهيارات أخلاقية لم تكن عفوية، وإنما صنعتها مافيا تجارة المخدرات في المنطقة[2]، التي وصلت إلى حد شرعنة الزراعة والاتجار في سموم المخدرات وحمايتها بقوانين وتشريعات في بعض دول المنطقة المهمة (المغرب نموذجا) بحيث تحولت الجزائر خصوصا ومنطقة المغرب العربي عموما من دول عبور الى دول استهلاك
ويتبع ذلك شبكات عابرة للدول تدير عملية اختراق الشباب بالمخدرات كمقدمة لضرب الأخلاق، وتدمير الروابط الاجتماعية التقليدية عبر إشاعة الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي تباعا.
ثم تحول الوضع خلال السنوات الأخيرة إلى تشكيل لوبيات الفساد المالي التي تدفع إلى السيطرة على مراكز القرار في السلطة وثرواتها ومقدراتها، بإشاعة الفقر الذي يتحوّل سريعا إلى بيئة حاضنة للفاحشة والتطبيع مع الرذيلة وتدمير مقاييس القيم وتكوين بيئة خصبة تحتضن الإرهاب والسخط على الدولة الوطنية.
رابعا- الاختراق الصهيوني:
قد يشكل الوجود الصهيوني في المنطقة حالة مستجدة تتجاوز مشروع التطبيع نحو مشروع التوطين الذي بدأ يأخذ أشكالا جديدة، قد تتوسع مستقبلا لأنها تأخذ مظاهر اقتصادية واجتماعية، خصوصا في (المغرب) الذي يتماهى كثيرا مع بعض دول الخليج في حالة العلاقة مع “إسرائيل”؛ حيث تتحدث الأرقام عن أكثر من مليوني يهودي يحوزون الجنسية المزدوجة المغربية “الإسرائيلية”، ويشكلون اللوبي الأكثر تأثيرا في المغرب لانهم الأكثر تحكما في حركة التجارة ومفاصل الاقتصاد، ثم إن العلاقة بين الكيان الصهيوني ونظام المخزن قديمة جدا مع بداية الحركة الصهيونية بل وإن اتفاقيات كامب ديفيد مع مصر رعتها المملكة المغربية والملك الحسن الثاني، وإن تواجدهم كأصحاب قرار في الديوان الملكي بصفة مستشار وغيرها أمر محتوم ودائم ومستمر.
وإعلان العلاقات الصهيونية المغربية سيشكل قاعدة انطلاق للاختراق الصهيوني للقارة الأفريقية بأشكال أمنية وعسكرية واقتصادية لها تأثيرها المستقبلي على التوازنات التقليدية؛ لأن الحضور العسكري “الإسرائيلي” في المغرب لا يشمل احتياجات محدودة لطرفي التحالف فحسب من أجل استهداف الجزائر كأساس لهذا الاتفاق الأمني والعسكري بينهما، ولكنه مقدمة لبسط نفوذ وأداء أدوار بالوكالة عن القوى الكبرى، كما حدث في تحالفات مشابهة في المشرق العربي و(الشرق الأوسط) عموما، وفي عموم دول المغرب العربي وإفريقيا الغربية على الأقل.
إن هذا الوضع من الناحية الاستراتيجية سيخدم بكل تأكيد كل الأدوات المتاحة أمامه لتحطيم كل قوى المقاومة على المستوى السياسي والدبلوماسي ثم الاقتصادي والأمني والعسكري كذلك، وأي نظام يسعى للانسجام مع مبادئه ويسعى لاستقلالية قراره.
ومن هنا نقدّر أن المنطقة ستتحوّل إلى خطوط تماس ومواجهة حتمية لحماية الأمن القومي لدول المنطقة، متفرقة أو متعاونة؛ لأنها ستكون أمام تأثير الاختراق والانقلابات ومحاولات التفرد بكل قطر على حدة، وتقسيم قراره السياسي، وزرع الفتنة بين مكوناته الفاعلة، ومحيطها مثل ما يراد اليوم بدول محورية (الجزائر)، ونرى كيف استخدم المغرب رسميا المسألة الثقافية البربرية إلى ورقة خطيرة تهدد وحدة الشعب الجزائري؛ بحيث يوزع سفير المملكة المغربية في الأمم المتحدة مذكرة رسمية تنادي بحق تقرير مصير الشعب القبائلي في الجزائر، وهي بالتأكيد مقدمة لترتيبات للمنطقة مستقبلا، كما أن ولايات الجنوب الجزائري -التي لم تنل حظها الوافر من التنمية المحلية مقارنة بولايات الشمال- سوف تكون ضمن برنامج صناعة التوتر، وتهديد الوحدة الترابية للجزائر من هذه القوى التي تعادي الجزائر تقليديا والتي تسعى لتثبيت معنى السيادة، وترسيخ السلام من خلال بناء مصالحات الشعوب وعدم التدخل في شؤون الغير.
وبهذا تحولت الجزائر إلى دولة مواجهة مباشرة مع الكيان الغاصب، الذي أصبح مكونا جديدا يدخل ويقرر في الأمن القومي للمنطقة المغاربية أو أي ترتيبات لاحقة في المنطقة المغاربية، كالذي حدث في دول الخليج بعد أزمة قطر مع السعودية والإمارات؛ حيث صارت تركيا جزءا من الأمن القومي الخليجي بعدما كان أمريكيا خالصا، وبعد أزمة اليمن أصبح الإيراني جزءا أصيلا في ترتيبات الأمن الخليجي مستقبلا، وجاءت عمليات السلام مع إسرائيل لتتعدد الفواعل في أمن الدول الخليجية.
- رئيـــــــس حركــــــة البنـــــــاء الوطنـــــــي الجزائرية.
المصدر : المجتمع