أخبار
مسارات مغاربة في كبيك .. محمد مخفي يقدم وصفات علاجية بالفنون والبيداغوجيا
استفاد محمد مخفي من رعاية عائلية لتنمية قدراته الفنية عبر الدراسة في مؤسسات متخصصة على التراب الفرنسي، كما حرص على تطوير نفسه في الحيز الأوروبي عينه قبل أن يقرر خوض تجربة بديلة في كيبيك وأن يستفيد من الخصوصيات المرتبطة بمونتريال كي يرتقي بأدائه في متحف الفنون الجميلة بالحاضرة ذاتها.
إلى جانب الإنتاج الفني والإبداع الكاليغرافي وتقديم الاستشارة الثقافية، يتخصص المغربي نفسه في صياغة البرامج البيداغوجية القادرة على دعم الأطفال في وضعيات صعبة، من خلال آليات الاشتغال الفنية. ويضع مخفي قدراته النوعية رهن إشارة وزارة التربية والتعليم في كيبيك من أجل تصريف استراتيجياتها لتطويق مصاعب التمدرس.
فاسي في الفن الرقمي
كبر محمد مخفي في أحضان فاس، مستمتعا بمصاحبة أبيه بين الأزقة المفضية إلى مرافق مختلفة؛ أبرزها جامع القرويين العريق، وما يرافق ذلك من نقاشات كانت تبهره بتطرقها إلى الشأن الديني، بينما تأثرت ميولاته بإيقاع الحياة في محيط الزخارف والخطاطين، وثلة كبيرة من الأعمال الفنية التقليدية.
ويقول محمد: ‘’الدراسة النظامية افتتحتها من المؤسسة الابتدائية ابن باديس، ثم انتقلت في المرحلة الموالية إلى ثانوية مولاي ادريس؛ لكنني انتقلت إلى فرنسا مع خالي الذي قصد أوروبا وأراد أن يوفر لي دراسة تتماشى مع طاقاتي الفنية، إذ كانت مواكبتها تعليميا صعبة خلال تلك الفترة في المغرب، وهناك حصلت على شهادة الباكالوريا”.
استكمل مخفي تعليمه العالي في المعهد العالي للفنون الجميلة بمدينة ‘’بوزونسون’’ الفرنسية، وهي القريبة من الحدود السويسرية. وفي الطور الموالي، أفلح في الحصول على فرصة تخدم الارتقاء أكثر بمستواه الإبداعي، عبر التكوين في مدرسة ‘’بول بروس’’ الكائنة بمدينة مونبوليي، ليصير متخصصا في الفنون الرقمية.
من الإشهار إلى البيداغوجيا
لازم محمد مخفي الاشتغال في الشركات المتخصصة في تقديم الخدمات الإشهارية، عقب تخرجه. وقد تواصل ذلك على مدى سنوات طويلة في فرنسا، وحرص من هذا الموقع المهني على تسخير مهاراته الفنية لتلبية حاجيات الزبناء في ميدان الدعاية والإعلان، إلى أن جاءت اللحظة التي تأكد فيها من الوصول إلى مرتبة لا تتيح المزيد من التطور في ما يقوم به.
واختار الخبير في الفنون الجميلة أن يستبدل حقله الإبداعي بالاستقرار في الميدان المسرحي، وأخذ يتعاطى مع عروض ‘’أبي الفنون’’ وهو مستقر في مدينة نيم، ثم أخذ يتعامل مع القاصرين المقبلين على الفضاء المسرحي للتعرف على ما يجري فيه، إضافة إلى صغار يقترفون جرائم بسيطة وتتم إحالتهم من لدن القضاء لتقويمهم بواسطة الفن.
انجذب مخفي إلى التعامل مع الأطفال. ولتسهيل المأمورية، حصل على تكوين بيداغوجي يتيح له ضبط التواصل مع هذه الشريحة العمرية، من جهة، والانكباب من جهة ثانية على إعداد برامج لتكوين الأساتذة في كيفية تسخير الثقافة لتطويع الطفولة المستعصية كي تستطيع العودة إلى السكة العادية في مختلف تصرفاتها الحسية السلوكية.
تحت تأثير الدهشة
حط ذو الأصل المغربي الفاسي الرحال في الديار الكندية سنة 2007، وكان ذلك بمدينة مونتريال بناء على انخراطه في مشروع فني جامعي، ليستشعر مخفي إيقاعا جديدا للحياة يختلف عن ما خبره سابقا خارج المغرب؛ وبالتالي اختار البقاء ملتصقا بهذا الحيز المجتمعي وجعله مستقرا بديلا لفرنسا.
ويقول محمد بهذا الخصوص: ‘’تملكتني، منذ أول نظرة إلى مونتريال، الدهشة.. الهدوء سائد أرجاء المكان وثقافة الناس عالية، كما أن معاملاتهم موسومة بقدر رفيع من الاحترام؛ بينما كنت قد ضجرت من مظاهر الصراع الاجتماعي المألوف في البيئة الفرنسية. كما أغراني الاستقرار في المدينة؛ لأن كيبيك تتكلم باللسان الفرنسي أيضا”.
حصل مخفي على فرصة عمل بسرعة قياسية في كيبيك، وارتبط ذلك ببرنامج كبير مخصص للتعامل مع الأطفال المنتمين إلى تجمعات سكانية هشة. وقد تقدم الوافد من فرنسا بطلب التحاق بفريق الاشتغال مع الجهة المشرفة، متمثلة في متحف الفنون الجميلة بمونتريال، ليحصل على رد إيجابي في غضون ساعات قليلة.
المواكبة الرسمية
اقترن أداء محمد مخفي في متحف الفنون الجميلة بمواكبة ما يعادل 1200 طفل سنويا بمدينة مونتريال، إذ يتجاوب مع استراتيجية المؤسسة في التعامل مع الصغار الوافدين عليها كي يتعلموا كيفية إنجاز بعض الأعمال، وأن يواصلوا الإنجاز في البيوت قبل استقدام المنتوج إلى المتحف والخضوع لتحفيزات تكافح الهدر المدرسي.
ويعلق المغربي نفسه على تطوير هذا الاشتغال في الفترة اللاحقة بقوله: ‘’قضيت سنوات من العمل في متحف الفنون الجميلة بمونتريال، وكانت هناك اجتماعات عديدة مع وزارة التعليم في كبيك تهم التعامل فنيا مع الأطفال، وقد حزت على الثقة كي أنتقل إلى تمرير ما تريده الوزارة من خلال مبادرات المتحف نفسه”.
“أخذت أصيغ البرامج الملائمة لكل فئة طفولية. وعند استقبال الوفود المدرسية، تكون في انتظارهم علب بيداغوجية تتيح الشروع في الأنشطة وسط متحف الفنون الجميلة، كما يتم اصطحاب العلب نفسها لإكمال المطلوب في الفصول .. إذا كان المحور هو بيكاسو، مثلا، فإن العلبة البيداغوجية تكون حوله؛ سواء بطريقة رسم أو بوجود قصيدة شعر، أو تمارين في الرياضيات أو دروس لغوية وغيرها’‘، يزيد مخفي.
مجهودات إضافية
يتحمل محمد مخفي أيضا مسؤولية الاستشارة الفنية للمركز الثقافي ‘‘دار المغرب’‘ في مونتريال. ومن هذا الموقع المقترن بالهوية الأصلية والوطن الأم يحرص الفنان نفسه تقديم النصيحة الداعمة للاشتغالات الإدارية والمساعدة في تطبيق مجموعة من البرامج الثقافية، سواء تلك الوافدة إلى الدار أو تلك التي يتم بناؤها داخليا عند الاحتفاء بالأعياد الوطنية والمناسبات الدينية.
ويبدع المنتمي إلى مغاربة كيبيك في الميدان الكاليغرافي أيضا. وقد ركز معرضه الأخير على الخط المغربي من خلال مائة لوحة وقطعة، وتم تقديمه للعموم وفق مقاربة تتولى النبش في الأصول مع إبراز مسيرة التطور حتى الوصول إلى الحلة التي يشتهر بها اليوم. كما يحاول المعرض عينه أن يستعرض كيفية الكتابة والآليات المستعملة من أجل ذلك عند المغاربة.
يسير مخفي نحو خوض تجربة الكتابة أيضا، إذ يعتبر أن الوقت قد حان لتمهيد الكتابة عن الفن بعد سنوات قليلة مقبلة، خاصة ما يرتبط بنظرية وتطور الفن الإسلامي وسط العوالم الغربية، والتدقيق في أهم القطع والمجموعات الفنية التي تبقى خارج البلدان الإسلامية في أيدي الغربيين، والخوض في تأثير هذا الفن في البيئة التي تحتضنه خارج موطنه.
نهاية جيل الاختصاص
يشجع محمد مخفي الشريحة الشابة من الراغبين في الهجرة على القيام بما تبتغي؛ لكنه يرصد وجود نسبة كبيرة من الجيل الجديد يستبعدون التحرك من المغرب، إذ يفضلون ملازمة التراب الوطني للاستفادة من الفرص الدراسية والمهنية المتاحة بالمملكة، وأيضا تسخير التكنولوجيا الرقمية للحصول على اشتغالات عابرة للحدود.
ويذكر صاحب تجربتَي العيش فوق التراب الفرنسي والأراضي الكندية أن المرء الذي يتبنى فكرة تجريب الحظ خارج المغرب ينبغي أن يستند إلى الاقتناع التام بضرورة الخطوة، إضافة إلى القيام باختيار الوجهة الملائمة للقدرات الفردية. كما يزيد أن التنفيذ ميدانيا يصير صلبا كلما تمسك المهاجر بأحلامه دون أي استسلام.
“أنتمي وكثيرون مثلي إلى أجيال ترى أنها صارت اختصاصية في أول شيء تتعلمه؛ لكن الجيل الحالي مختلف تماما عن الآخرين الذين سبقوه، لأن شبيبة اليوم مقبلة على مسايرة التغييرات دون توقف. وهذه القدرة نافعة على مستوى الهجرة، إذ لا داعي للتوقف عن التطور ما دام ذلك يتم بكيفيات مشروعة تتيح مسايرة التقلبات الذاتية والموضوعية’’، يختم محمد مخفي.