ما من شك أن القطاع الفلاحي يعد من أكثر القطاعات الاقتصادية التي أسالت خلال الآونة الأخيرة مدادا كثيرا، ودفعت المهتمين إلى التسابق نحو منابر الندوات والمحاضرات، فهذا القطاع بات متأثرا بدرجة واضحة بالتقلبات المناخية، ما أثر على إنتاجيته بشكل واضح في ما يخص منتجات بعينها.
وبدأ الحديث عن هذا القطاع يشتد خصوصا خلال أزمة الحرب الروسية الأوكرانية، على اعتبار أن هذا التطور الدولي رفع وقتها من أسعار المنتجات الاستهلاكية التي يتم عادة استيرادها من الخارج، من قبيل القمح، وأوضح كذلك وفقا للمتتبعين كيف أن الأمن الغذائي للبلاد يبقى “رهينا للسوق الدولية”، لتنطلق بذلك النداءات من أجل إعادة هيكلة الإنتاجية الفلاحية.
ومما يدفع به عدد من المواطنين أن السياسة الفلاحية المعمول بها وطنيا “لا تعطي الأهمية القصوى للأمن الغذائي الوطني” بقدر ما “تحفز أكثر على تصدير الفواكه والخضر التي تستنزف كميات كبيرة من المياه، في وقت وصلنا إلى مرحلة الإجهاد المائي”، ما يقول كثيرون إنها “مفارقة اقتصادية”.
وبين الفينة والأخرى تطفو على السطح دعوات من أجل إعادة بلورة سياسة فلاحية تركز أساسا على المنتجات الاستهلاكية الأساسية كالقمح، مع التوجه نحو التخلي بشكل تدريجي عن الزراعات المستنزفة للمياه، وهو الأمر الذي تختلف فيه قراءات الباحثين في الاقتصاد، بين من يؤكد وجود مفارقة اقتصادية وبين من يشدد على كون المجال الفلاحي يبقى مفتوحا للمستثمرين الذين يبقى لهم القرار في ما يحبذون الاستثمار فيه.
“مفارقة واضحة”
يوسف كراوي الفيلالي، خبير اقتصادي ورئيس المركز المغربي للحكامة والتسيير، أفاد بأن “الاقتصاد الفلاحي الوطني يعيش بطبيعة الحال على وقع نوع من المفارقة التي بدأت تظهر بوادرها منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية، التي أدت إلى الرفع من أسعار المواد الاستهلاكية في السوق الدولية”.
وأضاف كراوي، في تصريح ، أن “هذه الأزمة أفضت إلى ارتفاع قيمة الاستيراد المغربي من المنتجات الأساسية، تحديدا التي لا نحقق منها اكتفاءنا الذاتي، ولذلك نتجه نحو الأسواق العالمية لاستيرادها، الأمر انعكس على الميزان التجاري المغربي وطرح النقاش حول السيادة الغذائية على الطاولة”.
وسجل المتحدث ذاته أن “النقاش حول الموضوع يُثار كذلك في وقت نعرف إجهادا مائيا، إذ تستهلك المنتجات الفلاحية من الخضراوات والفواكه الكثير من المياه، لتوجه في ما بعد نحو التصدير، وهنا نتحدث أساسا عن البطيخ والطماطم والأفوكادو، التي أنهكت الفرشة المائية، في وقت نعيش عدم اكتفاء ذاتي من المنتجات الاستهلاكية الأساسية”.
وأورد رئيس المركز المغربي للحكامة والتسيير: “بالنظر إلى هذه المعطيات فإننا نجد أنفسنا أمام مفارقة تتجلى في تصدير المنتجات التي تستهلك المياه بكثرة، في مقابل الارتهان إلى السوق الدولية في ما يخص المواد الأساسية التي لم تحقق البلاد منها اكتفاءها الذاتي”.
اقتصاد متوازن
المهدي فقير، خبير اقتصادي، قال إن “الاقتصاد المغربي يظل اقتصادا ليبراليا ومنفتحا على السوق الدولية ومتطلبات المنطقة ككل؛ وانفتاح هذا القطاع يبرز من خلال كونه يضم مستثمرين فلاحيين خواصا يهدفون أساسا إلى تحقيق إضافة اقتصادية بالنسبة إليهم وللبلاد ككل، ما يعني أن الحديث عن التناقض غير وارد بتاتا”.
وأوضح فقير، في تصريح ، أن “القطاع الفلاحي الوطني يبقى منفتحا على الشركاء الخواص الذين يمكنهم الاستثمار فيه من خلال تحديد المنتجات التي يحتاج إليها السوق، والتي يسجل فيها خصاص”، مردفا: “إذا كنا نريد فلاحة موجهة فإن الدولة ستكون ملزمة بتقديم تعويضات للفلاحين الذين لن يلائمهم هذا التوجه”.
واعتبر المتحدث ذاته أن “تدخل الدولة في توجيه القطاع الفلاحي يبقى محدودا من خلال سن إجراءات لمواجهة شح منتج بعينه، من أجل إعادة التوازن إلى السوق الوطنية، وهو ما يرتبط أساسا بالأمن الغذائي الوطني للبلاد كلها”، موضحا أن “المغرب بحاجة إلى فلاحة احترافية أكثر تكيفا مع التغيرات المناخية الحالية بشكل يضمن استدامة الإنتاج”.
وخلص الخبير عينه إلى أن “موضوع الفلاحة بالمغرب دخل نفقا تطغى عليه أساسا التجاذبات السياسية، فكلما أثير على طاولة النقاش العمومي إلا ولمسنا تصريف الحسابات بين الفرقاء السياسيين، وهو ما يقع اليوم بين المعارضة والأغلبية؛ فيما نحن في حاجة إلى بدائل ومقاربات جديدة تكون في صالح الوطن والمواطنين بعيدا عن كيل الاتهامات”.
المصدر : هسبريس