أخبارالثقافة والفن
تحقيق يكشف نبوغا مغربيا في فهم وإنشاء المقامات عند الأديب بوجندار
جانب مغمور من الاهتمام المغربي بفن المقامة الأدبي يكشفه كتاب صدر بعنوان “أبدع المقالات في فن المقامات” للعالم المغربي الراحل في الربع الأول من القرن العشرين محمد بوجندار، نهضت بتحقيقه إلهام السوسي العبدلاوي، الأستاذة بجامعة محمد الخامس بالرباط وحفيدة الأديب والمؤرخ.
ويقدم هذا الكتاب في الآن ذاته مدخلا للتعرف على فن المقامة وضوابطه وتاريخه وأعلامه مغربا ومشرقا، مع التأريخ لمقامات مغربية وأندلسية طريفة حول شرب الآتاي والطنجية “بنت الرماد” والغزل والتعبير عن الغرام والمفاضلة بين مالقة وسلا وأخرى في الوعظ والفلسفة والعلوم الرياضية، ومنها مقامات مشرقية مسيحية، وأخرى عن الفستق والياقوت والسندس والورد ومناقب التفاح.
بوجندار، الذي كان من أدباء وشعراء ونقاد عصره البارزين مطلع القرن العشرين بالرباط، عرّف “المقامة” بكونها “حكايات مخترعة. وُضعت لتسلية النفوس وقت الفراغ، كفن الروايات. و(…) الغاية المقصودة لمنشئيها هي جمع دُرر الألفاظ وغُرر البيان وشوارد اللغة ونوادر الكلام من منظوم ومنثور، زيادة عن ذكر اللطائف الأنيقة والدقائق الغريبة وجلب الفرائد البديعة والرقائق الأدبية كالرسائل المبتكرة، والخطب المحبرة والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية”.
ويرجح الكاتب كفة إبداع مقامات الحريري “الأمتع، والأحفل، والأجزل، والأكمل”، ولو أن واضع هذا الفن هو بديع الزمان الهمذاني، مع التعريف بهما، وبزمنهما، ومن اهتدى بمنهجهما في الكتابة، وأنشأ على منواله، ومن بينهم أندلسيون مثل لسان الدين بن الخطيب، ومغاربة منهم على سبيل المثال أبو الفيض حمدون بن الحاج وعبد القادر بن شقرون المكناسي والعربي بن عبد الله بن أبي يحيى المساري ومحمد المكي البطاوري ومحمد بوجندار نفسه.
ومع تقديم الكاتب نماذج مقامات للقراءة، تحضر فيه مفاضلة بين مراتب القُراء والسماع، يخلص بعدها إلى أن “المقامة” فن يليق به “الإنشاء العالي”؛ ثم يضيف شارحا: “أعني الطبقة العليا منه. كما فعل الحريري والهمذاني وغيرُهما. والسر في ذلك هو أن المقامات وُضعت لمجالس العلماء وخُصت بحلقات الوُجهاء ومنتديات النبهاء. فهي سمير النبغاء، ونديم البلغاء، وأنيس الأدباء، وجليس الألباء”، قبل أن يختم بقول: “ومعلوم أن لكل مقام مقالا ولكل مقال مقاما”.
وتصدر هذا العمل تقريظ المحدث محمد عبد الحي الكتاني، الذي قال في حياة الأديب بوجندار الراحل سنة 1926 إنه قد طولع “بمقالة المقامات، التي إن أسهبتُ في مدحها، وأتيتُ بما عندي من الإطراءات، لم يُعد ذلك من باب المغالاة لمقام الصفي، الأديب النابغة الذكي، خلاصة وُدي ووُد خاصتنا، أبي عبد الله بوجندار. فإذا هي مقالة تضاهي شمس الهالة، وشهامة تُحدث عن جلالة”.
وكتب بوجندار عن مقالاته حول المقامات: “حاولتُ جمع كليمات، في فن المقامات، كنتُ قلدت بها أجياد أطراسي، وقرطتُ بإملائها مسامع أهل مجلسي وجُلاسي، لما رُشحت لدرس الحريرية، بالمدرسة العليا الرباطية، قاصدا بذلك حفظها من الضياع، ونفع نفسي ومن يود من أبناء جنسي الانتفاع أو الاستماع. فلستُ إلا ممن يقرأ ليكتب، ويكتب ليحفظ ويحفظ للإسماع، معترفا بأن الفخر لصاحب الدر لا لناظمه، والفضل للغيث محيي الروض لا لكمائمه. وإنه ليس لي فيما كتبته إلا فضيلة الجمع والترتيب، ومزية الانتخاب والتهذيب”.
وفي تقديم التحقيق، كتب الأكاديمي عزة حسن أن “أبدع المقالات في فن المقامات” من بين المؤلفات الكثيرة لبوجندار و”نظرت فيه حفيدته النجيبة الدكتورة إلهام السوسي العبدلاوي، وحققته ونشرته أول مرة في هذه الطبعة. وهذا الكتاب هو بتمامه مجموع مقالات عرض فيها لفن المقامات في الأدب العربي، من جهات عديدة مختلفة، في اللغة والأسلوب والمضمون والمغزى والجدوى. ويشكل هذا الكتاب بمجموع مقالاته بحثا طريفا مفيدا، جديدا في زمانه. لم يسبق له أحد من معاصريه، ولم يدركه أحد من الذين أتوا بعده، ولم يبلغ شأوه فيه أحد إلى أيامنا الحاضرة”.
فيما ذكرت المحققة إلهام السوسي العبدلاوي أن دافعها الأساس إلى تحقيق الكتاب كان الإسهام “ولو بقدر وجيز، للتعريف بآثار الأدب المغربي وإحياء تراث المبدعين فيه من علماء وأدباء”، موردة دلائل على قيمة هذا الكتاب من كتابات حوله وحول مؤلفه؛ من بينها ما خطه الفقيه الأديب صاحب “الكتابة والكتاب”: “وقد توسع صديقنا المفضل العلامة حامل ولاية الأدب بالعدوتين بدلا منازع، رئيس نادينا الأدبي رقيق القلب والأشعار، أبو عبد الله سيدي محمد بوجندار (…) في “فن المقامات” توسعا حتى جعله علما مستقلا، وأسس له قواعد ونظامات، وألف في ذلك كتابا سماه (أبدع المقالات في فن المقامات)”.
المصدر : هسبريس