سياسة وعلاقات دولية

التخلي عن رعاية الأشخاص المسنين يسائل منظومة القيم الأسرية في المغرب

رمي المسنين في دور العجزة من قبل الأبناء والأقارب” ظاهرة مؤسفة وخطيرة ظلت تنتشر بصمت في المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة؛ إذ يرمى الآباء والأمهات في غياهب هذه المؤسسات الاجتماعية المغلقة، تاركين وراءهم عقودا من التضحية والعطاء، ليواجهوا مصيرهم المجهول.

بدلا من توفير الرعاية الحنونة للأمهات والآباء المسنين في مراحل حياتهم الأخيرة يختار بعض الأبناء “مساخيط الوالدين” التخلص من هذه المسؤولية الأسرية والدفع بالوالدين إلى مصير مجهول في المؤسسات الاجتماعية المغلقة، ما يجعل القصص المؤلمة لهؤلاء النزلاء المسنين تكشف عن تفسخ القيم الأخلاقية وانهيار الروابط الأسرية.

وأجمع عدد من الباحثين والمهتمين بقضايا المسنين على أن ظاهرة رمي الأمهات والآباء المسنين في دور العجزة أصبحت من الظواهر المؤسفة التي ظلت تنتشر في المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة، موضحين أن الآباء بعد أن كانوا يضعون أبناءهم في الحضانات ويربونهم بالإحسان أصبح الأبناء اليوم يتخلون عن آبائهم المسنين ويودعونهم دور العجزة.

ولم يخف عدد من المهتمين بالموضوع، في تصريحات متطابقة لهسبريس، أن هذه الظواهر الخطيرة تستحق الوقوف عندها والبحث في أسبابها وآثارها والحلول المقترحة لمعالجتها، وذلك من خلال استعراض بعض الحالات الفردية أو القصص الإنسانية التي توضح هذه الظاهرة بشكل ملموس، وتقديم توصيات عملية للحد منها وتعزيز الترابط الأسري والبر بالوالدين.

أضرار نفسية وصحية

كشف مصدر طبي مسؤول أن إيداع الآباء المسنين دور العجزة يؤثر بشكل كبير على صحتهم النفسية والجسدية، فكثير منهم يعانون من الاكتئاب والشعور بالعزلة والاغتراب عن أسرهم وبيئتهم المألوفة، مضيفا أن “هذه الفئة أكثر عرضة لسوء المعاملة والإهمال في بعض المؤسسات الاجتماعية، نظرا لقلة الموارد البشرية المؤهلة، ما ينعكس سلبا على جودة حياتها وكرامتها الإنسانية”.

وتابع المتحدث ذاته في تصريح لهسبريس: “من ناحية أخرى تؤثر هذه الممارسة على الأسر أيضا، حيث تؤدي إلى تفكك الروابط العائلية وضعف الترابط بين الأجيال؛ كما تحمل الأسر أعباء مالية إضافية نتيجة تكاليف الإيداع في دور العجزة”، مبرزا أن “رمي الآباء في دور العجزة ينطوي على انتهاك حقوق كبار السن في الرعاية الأسرية والكرامة الإنسانية”، ومشيرا إلى أن “هذه الممارسة لا تعكس فقط الأضرار النفسية والصحية، بل تعكس أيضا تآكل القيم الأسرية والاجتماعية، وتؤدي إلى معاناة نفسية كبيرة للمسنين”.

وزاد المسؤول ذاته: “نشهد اليوم ارتفاعا ملحوظا في حالات الاكتئاب والقلق لدى المسنين المودعين دور العجزة”، مؤكدا أن “هذا الأمر له تأثير سلبي على صحتهم النفسية والجسدية على المدى الطويل”، وداعيا الجميع، حكومة ومجتمعا مدنيا، إلى “التحرك من أجل معالجة المشكل قبل أن يتفاقم أكثر”، بتعبيره

أزمة أخلاقية واجتماعية

جميلة، عاملة بإحدى دور المسنين بالأطلس المغربي، (رفضت الكشف عن هويتها)، كشفت أن “ما يجري في دور العجزة هو انعكاس لأزمة أخلاقية واجتماعية أعمق تنخر في جسد المجتمع المغربي”، مضيفة أن “التخلي عن الآباء المسنين وتجريدهم من كرامتهم يعكس تآكل القيم الأسرية والإنسانية لدى عدد كبير من الأبناء”.

وأردفت المتحدث ذاتها، في تصريح لهسبريس، بأن “هذه الظاهرة تظهر فشل المؤسسات العمومية المعنية والمجتمع المدني في توفير البيئة الداعمة لرعاية كبار السن وحمايتهم من الإهمال والاستغلال”، مؤكدة أن “هذا الموضوع يتطلب إصلاحات جذرية على مستوى السياسات والبرامج الاجتماعية”

وأشارت المتحدثة ذاتها إلى نقطة مهمة قائلة: “لا تقتصر معاناة هؤلاء المسنين على الإهمال والإساءة داخل دور العجزة ببعض مدن المغرب، بل تمتد إلى الخوف من الإبلاغ عن سوء المعاملة”، موردة أن “البعض منهم يعانون من التهديد والضغوط التي تمنعهم من رفع صوتهم”، وداعية الدولة، ممثلة في القطاع الحكومي المعني، إلى “إرسال لجان مركزية سرية للقيام بأبحاث في الموضوع”، وفق تعبيرها.

متخصص في علوم التربية يوضح

لحسن مادي، أستاذ التعليم العالي متخصص في علوم التربية، كشف أن “الموضوع يعتبر من مواضيع الساعة في جميع المجتمعات بدون شك، وأيضا في المجتمع المغربي الذي عرف بتطوعه وبالبر والاعتناء بالوالدين”، مضيفا أن “هذه الظاهرة أصبحت تتوسع في المجتمع المغربي”، وواصفا إيها بـ”غير المألوفة”، والتي “ينفر منها المجتمع”.

وكشف المتخصص في علوم التربية، في تصريحه لهسبريس، أن “ظاهرة رمي الآباء المسنين في دور العجزة من قبل الأبناء تزداد يوما بعد يوم، خاصة في العقدين الأخيرين”، مؤكدا أنها “يرفضها المجتمع، وتعتبر نوعا من الانحراف والتخلي عن مجموعة من القيم الإسلامية التي تدعو إلى البر بالوالدين والاعتناء بهما”، وزاد: “هذه الظاهرة التي بدأت تنخر المجتمع ستبني قيما جديدة لدى الأطفال الذين تتم تربيتهم بدورهم على التخلي مستقبلا عن آبائهم”.

وأوضح لحسن مادي أن “هناك عدة أسباب تؤدي إلى هذه الظاهرة، من بينها أن الأسرة التي كانت حاضنة للمسنين والآباء والأطفال تحولت من أسرة كبيرة أو ما تعرف بالأسرة الممتدة، التي تتكون من الجد والأب والأطفال وأفراد العائلة الآخرين، إلى أسرة نووية تتكون فقط من الأبوين والأطفال، وأيضا ظروف الحياة التي تطورت بشكل كبير وجعلت الأسرة الصغيرة منشغلة ولا تسمح لها الظروف بالرعاية”.

وأكد المتحدث ذاته أنه “من الواجب تقديم العناية اللازمة للمسنين من قبل أسرهم”، رافضا الزج بهم في دور العجزة “التي يعيشون داخلها حياة بئيسة ويصبحون وحيدين، بعدما كانوا يعيشون داخل منازلهم بجانب أبنائهم وأحفادهم”، ومنوها بالعناية التي توفرها الدولة لهؤلاء النزلاء، “رغم أنه لا يمكن مقارنتها بالدفء الأسري الذي يعيشونه مع الأبناء”.

وأردف مادي بأن “هذه الظاهرة الخطيرة واردة بقوة مستقبلا في المغرب، نتيجة تطور الحياة والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي يعرفها المجتمع المغربي”، وزاد: “أمام هذا الوضع تعتبر الحكومة مسؤولة عن حياة هؤلاء المسنين، وعليها أن توفر الدور والأماكن الملائمة الدائمة لهم”، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن “الظاهرة إلى حد الساعة ليست عامة، وتتمركز خاصة في المدن”.

وأكد أستاذ التعليم العالي المتخصص في علوم التربية أن الأمر يستلزم تحسيسا تربويا للأبناء “لحماية هؤلاء المسنين داخل منازلهم، والاعتراف بحقهم في الحياة والبر والعناية التامة بهم”، داعيا المؤسسات التعليمية وجمعيات المجتمع المدني، وكل من له الحق في ذلك، إلى “القيام بحصص تحسيسية وتربوية هدفها توعية الأبناء بأن هؤلاء العجزة الذين يتواجدون معهم كانوا في يوم من الأيام أقوى وساهموا في تربيتهم حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه”، ومشيرا إلى أن “الزج بالمسنين في دور العجزة ليس حلا ملائما، فمكانهم مع أسرهم”.

إغلاق