سياسة وعلاقات دولية

ذكرى المفكر مالك بن نبي .. طبيب شَخص أمراض الإنسان العربي

بحلول هذه الأيام تمر ست وأربعون سنة على رحيل الباحث الاجتماعي الجزائري مالك بن نبي، تاركا لنا تراثا فكريا مهما في معالجة مشكلات الحضارة.

تجربتي مع فكر هذا الفيلسوف تقدر بعقود. بدأت بقراءته منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي. أتذكر الصعوبات التي واجهتني في فهم مرمى وغاية هذا الفكر، خاصة كتاب “شروط النهضة وميلاد مجتمع ومشكلة الثقافة والظاهرة القرآنية”.

وبعد زمن، أعدت قراءة هذه الكتب الأربعة، ولكن قراءة تنقيحية تعريفية لفهم ما بين السطور وتحت الكلام.

وباستيعاب هذا الفكر، تغيرت نطرتي إلى مشكلات الحياة وطريقة التفاعل معها. صرت من الذين يدعون إلى تغيير ما بالنفس وما بالمحيط الذي أحيا فيه.

عمل مالك بن نبي طيلة حياته الفكرية على تشخيص مرض المسلمين النفسي والاجتماعي، فرأى أن مشكلة تنكبهم وانحطاطهم عاملها داخلي بالدرجة الأولى وليس خارجيا!

فولادة المجتمع لا تكون باقتناء الأشياء وتقديس الأشخاص، وإنما بالأفكار. والحضارة إذا كانت في عناصرها الأساسية: الإنسان، التراب، الزمن، كما يشرحها في مؤلفاته، والثقافة إذا كانت تعني أسلوب حضارة تحفز الإنسان ووسائله عبر الركائز الأربع: المبدأ الخلاقي، الذوق الجمالي، المنطق العملي، والتقنية، فإن طريق الحضارة يسير بالمجتمع قوة وضعفا، صعودا وهبوطا، تبعا لدرجة تمحوره حول منظومة الأفكار أو حول الأشياء المحيطة به.

وقد يكون مجتمع من المجتمعات يمر بمرحلة يكون فيها فقير الوسائل، فإذا ما أدركته فكرة جوهرية تستقطب روحه، دخل دورة التاريخ واندفع جهده اليومي نحو مثل أعلى يجعل لأفكاره دورا وظيفيا، لأن الحضارة هي القدرة على القيام بوظيفة أو مهمة معينة.

لم يكن مالك ابن نبي مفكرا إصلاحيا بالمعنى المتعارف عليه عند معظم من تناول فكره، بل استطاع تشخيص مرض تخلف المسلم عبر رؤية منهجية واضحة، فوضع منهجا محددا واضحا في بحث مرض المسلم وغثائيته على أساس من دراسات النفس والاجتماع وقانون التاريخ.

من خلال دراستي لفكره يتضح أن دور المسلم التاريخي قد استنفد منذ عهد دولة الموحدين في المغرب وصار يعيش على هامش التاريخ، في سبات حضاري عميق، ولكي يخرج من تخلفه وكلالته لا بد أن يفهم سنن الله الثابتة التي تخضع لها المجتمعات، “فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا”. وبفهم هذه السنن وجعلها في خدمته وقيد تصرفه يستطيع أن يلج دورة التاريخ الخالدة من جديد، فيصنع حضارته وتعيد له بهاءه وكرامته وعزته. “فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا أن نعرف عوامل النهضة أو السقوط في حياتنا. ولعل أعظم زيغنا وتنكبنا عن طريق التاريخ أننا نجهل النقطة التي منها نبدأ تاريخنا، ولعل أكبر أخطاء القادة أنهم يسقطون من حسابهم هذه الملاحظة الاجتماعية. ومن هنا تبدأ الكارثة، ويخرج قطارنا عن طريقه حيث يسير خبط عشواء”. (مقتبس من كتاب: شروط النهضة، ص. 52).

كل ما كتبه مالك بن نبي بالفرنسية ترجم إلى العربية ليستفيد منه العرب، ولكن استفادتهم من كنوز فكره بقيت محدودة جدا، وكتبه التي تزيد عن عشرين كتابا لم توقظ العرب من نومهم. وعندما فشلوا في صراعهم مع إسرائيل وهزيمتهم المهينة في حرب 1967، قال لهم الرجل إن الهزيمة ترجع في جذورها إلى آفة “القابلية للاستعمار”، وهو مرض ثقافي أكثر منه سياسي، نشأ تحت قباب الجوامع الإسلامية قبل أن يأتينا الغرب بعتاده العسكري. إنه تحليل انقلابي ليس من السهل أن يتقبله العرب بحكم إدمانهم على ترديد ما قاله السلف الصالح دون تمحيص ولا نقد!

يمتلك ابن نبي قدرات هائلة في تحليل العوامل الداخلية لسقوط العرب حضاريا، مثل النقد الذاتي والقابلية للاستعمار. وهذا الكلام صدمني في البداية ولم أتقبله بسهولة وكنت أتساءل عما يتحدث مالك بن نبي، لأنني كنت لا أسمع ولا أقرأ إلا إدانة الاستعمار والصهيونية والصليبية… كل الكتابات والمحاضرات التي كنت أقرأها وأتابعها قبل اكتشاف فكر ابن نبي كانت تصب في هذا الاتجاه: خبث الأعداء وتخطيطاتهم. لم يكن أحد من هؤلاء أو أولئك المنتمين إلى الحركات القومية والإسلامية يتجرأ على الحديث عن القابلية للاستعمار خوفا من الاتهام بالخيانة!!!

يعتبر مالك بن نبي من طراز آخر غير الطراز التقليدي للمفكرين الإسلاميين المعاصرين. صدم كثير من الباحثين في العالم العربي والإسلامي بوضعه لنظرية القابلية للاستعمار ومبدأ النقد الذاتي، وبهذا يكون قد أحيا قانونا من قوانين القرآن: “النفس اللوامة” في بعدها النفسي والاجتماعي.

كان الرجل مسلم القلب، آمن بالدين كمنهاج حياة، ولكن الدين الذي يجعل من المسلم أنسانا فعالا آمرا بالعدل يحمل هم تخلف المجتمع ويساهم في وعيه ويقوم بواجبه، كما يشرح في مؤلفاته أن من يقوم بواجبه يأتيه حقه، لأن الحقوق لا تؤخذ ولا تعطى، بل هي ثمرة طبيعية لأداء الواجبات.

وعن حركة التاريخ يشرح كيف استنفدت النهضة الإسلامية مضامينها الروحية مع واقعة صفين، فكانت أخطر من الصراع العسكري حيث أحدثت شرخا في سلوك المسلم كما عبر عنه عقيل بن أبي طالب شقيق الخليفة علي: “الصلاة خلف علي أثوب ومائدة معاوية أدسم”. وكان هذا إيذانا بانشقاق في الضمير الإسلامي، وما زلنا حتى اليوم نعاني من تبعات هذه الكارثة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.

يتميز فكر بن نبي بـأنه فكر وظيفي، فالمفاهيم التي أسسها ليس الهدف منها فهم الحقائق الإنسانية فحسب، وإنما أيضا طبيعة تحولها. وبهذا المنظور يأتي التعريف الذي يقترحه للحضارة ديناميكيا: “الحضارة هي مجموعة الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلى الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك من أطواره نموه”.

فهذه الشروط هي التي تخلق وسطا ملائما لبعث الحركة والديناميكية والروح الإبداعية والابتكارية في المجتمع، فالرجال العظام الذين حملوا رايات حضاراتهم مثل أفلاطون أو أرسطو بالنسبة للحضارة اليونانية، وابن سيناء أو ابن رشد بالنسبة للحضارة الإسلامية، وديكارت أو غوتيه بالنسبة للحضارة الغربية، ليسوا إلا نتاجا لتلك الحضارات.

أبدع مالك بن نبي على نحو مبكر عندما توصل إلى أن القوة لا تجدي في شيء في صنع نهضة، وإنما القوة للأفكار في خلق العزة والكرامة للمجتمعات. جربت أوروبا جميع أنواع الحروب الدينية والقومية والعالمية ولم تجن إلا الدمار والويلات فألغت القوة وأعلنت العودة إلى الإنسان ولا شيء غير الإنسان. التحرر من أصنام القوة هو تحرر داخلي، وهذا ما يغيب عن مخيلة العرب والمسلمين للأسف!

رأى مالك بن نبي بذهنه الثاقب أن اكتساب العرب للقوة لن يحل مشاكلهم الاجتماعية والسياسية، وأعطاهم مثلين من التاريخ المعاصر: ألمانيا واليابان خسرتا الحرب وضاع عالم أشيائهما، ولكن عالم أفكارهما لم يضع، هو الذي أعاد لهما ماء وجههما وأنقذهما من آفة القابلية للاستعمار، بل بفضل عالم أفكارهما استعادا عالم الأشياء. لم يتدبر بنو العرب هاذين المثلين ليتعظوا من التاريخ ويرجعوا إلى الإنسان ويغيروا ما بالنفس.

كم كان هذا المفكر رائعا عندما أنتج هذا الفكر التغييري طالبا منا أن نبحثه وننطر فيه بروح ناقدة ولا نكتفي بإلقائه فقط في الندوات والمحاضرات، كما يقول أحد الباحثين والمهتمين بفكره: “لم تعد القراءة التقليدية لفكر مالك بن نبي مفيدة وناجعة سواء لدارسها أو موضوع الدراسة، فإعادة بسط وعرض ما كتبه مالك بن نبي هو من قبيل تحصيل الحاصل، وشرح الشرح، وتلخيص التلخيص .. وهي عادة ألفها ومارسها كتاب الأمة الإسلامية منذ عصر الانحطاط. إن الكاتب لا يحيى ولا يخلد إلا من خلال القراءة النقدية التجاوزية، فكلما كثر النقد لنصه كثرت مجالات تواجده وحياته المعنوية، وربما يكتب له الخلود مع كبار الفلاسفة والعلماء كما هو الشأن لأفلاطون وأرسطو وابن رشد وابن خلدون … إن نصوص كبار الفلاسفة والمفكرين لم يكتب لها النجاح إلا من خلال تعرضها للنقد والنقض معا … إن المفكر ذاته يكره التقديس والتبجيل ويرنو نحو النقد الصريح ذي البعد الأخلاقي والجمالي معا”.

إغلاق