سياسة وعلاقات دولية
سليمان الريسوني يكتب.. Métastase الإفساد
أبانَ الاعتقال التعسفي للصحافي توفيق بوعشرين عن أن داء العطب في المغرب، ليس قديما فحسب، كما قال السلطان مولاي حفيظ، بل قديم وعميم، وأنه انتقل إلى كثير من الأعضاء، بما في ذلك التي كانت تبدو سليمة أو ممانعة لعطب الإفساد. فالسلطة، التي فشلت في إقناع المغاربة بأنها غير فاسدة، نجحت في جعلهم يعتقدون أن الكل فاسد، أو يتحين فرصته ليغرف من حوض الفساد. لقد حكى لي مسؤول في حزب سياسي كان يدعو إلى مقاطعة الانتخابات، عن حوار دار بينه وبين مجموعة من الشباب قدم لهم بيانا يشرح موقف حزبه، فاعتقدوا أنه منشور انتخابي، فقالوا له: «ممصوتينش.. الأحزاب كلهم شفارة»، فأجابهم: «اقرؤوا البيان.. نحن مثلكم ندعو إلى عدم التصويت»، فألقموه: «أنتم بدوركم إذا وصلتم إلى السلطة فلن تكونوا أحسن من هؤلاء الذين تدعوننا إلى عدم التصويت لهم»، وضربوا مثلا بحزب ديمقراطي عريق تحول، بعد انتقاله من المعارضة إلى الحكومة، إلى حزب ضد تاريخه ومبادئه التي أسس عليها. وعلق المسؤول السياسي على هذه الواقعة: «لقد تبين أن الدولة التي تصفنا بالعدميين هي أكبر مشجع على العدمية، وأنها لم تنجح فقط في إفساد السياسيين الذين يشتغلون معها دون شروط غير شروطها، بل في إفساد شعب بكامله».
قضية توفيق بوعشرين، مثل أي قضية كبرى، تفجرت فأضاء شرر شظاياها دائرة واسعة من البؤر المظلمة والمسارات التي طالها داء العطب والإفساد. فمن خلالها اكتشفنا أن الخلل ليس محصورا في الجهة التي خططت وأمرت ونفذت اعتقال هذا الصحافي، أو الجهة التي أصدرت حكما عليه بـ12 سنة سجنا، بل طاول أيضا الجسم الذي ينتمي إليه بوعشرين! ما معنى أن تتفرغ قيادية في نقابة الصحافة لتنظيم الحملات الممنهجة ضد زميل لها، فتضع الجهات المعلومة رهن إشارتها الإمكانات المالية والإعلامية، ويجري تسفيرها إلى باريس وجنيف لإدانة أخ لها في الحرفة، حتى بعدما أدانه القضاء بـ12 سنة سجنا؟ ما الذي تريده هذه الصحافية، التي حباها لله بكل المواهب إلا موهبة الكتابة، أكثر من 12 سنة؟ ذلك له معنى واحد هو أن مشتقات الفساد في الأحزاب والنقابات وصحافة التشهير، تمشي على منهج السلطة التي ترعاهم: «مادمنا فشلنا في ستر فسادنا، فلنجرب أن ننجح في تسويد الصحافيين المستقلين والمهنيين». كيف يجرؤ رئيس سابق للنقابة نفسها على سَوقِ ثلاث نساء، لا علاقة لهن بالصحافة، إلى ملاقاة فيليب لوروث، رئيس الفدرالية الدولية للصحافيين، وتقديمهن له على أساس أنهن صحافيات اغتصبهن بوعشرين، ثم يطلب منه إصدار بيان تضامني معهن، فتفضحه إحداهن بنشر ذلك البيان على صفحتها بالفايسبوك. وكم كانت المفاجأة صادمة؛ فيليب لوروث يخاطب هذه السيدة، التي لم يسبق أن كتبت حرفا حتى في مجلة حائطية، بالزميلة الصحافية العزيزة، فيما هي استمرأت هذا الدور الذي أنيط بها مثلما استمرأت من قبل لعب دور ضحية الاغتصاب الذي غُصبت على لعبه من لدن الجهة التي حبكت هذا الملف. هذه السيدة، للتذكير، سبق لها أن نشرت تدوينة تتضامن فيها مع بوعشرين، مباشرة بعد اعتقاله، قبل أن تحذفها، وتتحول، بقدرة قادر، إلى متهمة إياه باغتصابها والاتجار بها، وهلم جرا من التهم، وذلك بعدما جرى تخييرها؛ إما حريم التجريم، وإما تجريم الحريم.
إن المنطق السليم يقول إنه في أي نقابة في الدنيا، سواء كانت للنجارة أو الجزارة أو الصحافة، إذا تورط أحد المنتمين إليها في جريمة ما، فإن هذه النقابة إما تدافع عنه، وإما تنأى بنفسها عن الموضوع، فيما نقابتنا وزملاؤنا في الجرائد التي تنْقَب من صحون السلطة، وقفوا في طليعة الطابور المتكالب على زميل لم يعد هناك من شك في أنه اعتقل بسبب الافتتاحيات وليس بسبب الفتيات.
هل كل هذا الحقد والتكالب والتحامل على توفيق بوعشرين، لمجرد أن هذه الصحافية النقابية ومدير الجريدة التي تُشغلها لأغراض غير الكتابة، وزعيمها في الحزب وعرّابيه في السلطة، يكرهون بوعشرين، لأنه دافع عن حق عدوِّهم الوجودي، حزب العدالة والتنمية، في الوجود، وأحرج رئيسي حكومته، الأول والثاني، بمطالبتهما بممارسة سلطاتهما الدستورية كاملة، وفضح وزراء «عطيني نعطيك»، وانتقد «خدام الدولة» وتيار الخنوع داخل البيجيدي، أم إن هناك أسبابا أخرى لهذا الحقد اللامحدود لدى مهندسي هذا الملف، ولقد قال لي الزميل، الشهم، أحمد نجيم، أخيرا: «إن كثيرا من المتحاملين على توفيق بوعشرين، يفعلون ذلك حقدا عليه لأنه نجح في تحقيق معادلة شبه مستحيلة في المغرب؛ تأسيس مقاولة صحافية مستقلة وناجحة». وبالفعل، فقد جرب الكثير من الزملاء، وضمنهم أناس محترمون، أن يكونوا، في بداياتهم، مستقلين، لكن لا يكلف لله نفسا إلا وسعها. لقد جرفتهم ماكينة إغراءات السلطة التي تشتغل بمنطق «الفقر والشجاعة» أو «الانبطاح والتفطاح». ومن لم تجرفه هذه الماكينة، أخرسه الخوف.
ونحن في بداية المحاكمة الاستئنافية لتوفيق بوعشرين، من المهم أن ننتبه إلى أمر محرج لكل من ساهم في اعتقال هذا الصحافي والتشهير به. في أول مرة عرضت فيها قضية بوعشرين على «محكمة» غير مغربية، جرت تبرئته. بل إن هذه المحكمة، وأقصد فريق عمل الأمم المتحدة المعني بالاحتجاز التعسفي، طالبت بالإفراج عنه، فورا، وتعويضه، ومحاسبة المسؤولين عن اعتقاله.